قد يقول البعض إن الأزمة العراقية قد بدأت مع بداية الغزو الأميركي للعراق عام 2003، نتيجة لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول وما تلاها من المعلومات الاستخباراتية، التي أكدت آنذاك على امتلاك الرئيس العراقي السابق صدام حسين أسلحة دمار شامل، الأمر الذي يهدد سلامة الهدوء الحذر في منطقة الشرق الأوسط، وما زاد تلك التهديدات كان التوتر الذي بثته حكومة الاحتلال الإسرائيلي للحكومات الأوروبية عامة، والأميركية خاصة.
الأميركان كانوا يتهافتون من أجل التدخل عسكريًا زمن حرب الخليج الثانية ولكن ما كبح جماحهم في تلك الفترة كان عدم استعدادهم بالقدر الكافي للدخول واحتلال الأراضي العراقية، والجهود التي تم بذلها آنذاك من قبل الحكومتَين السعودية والمصرية
أكاذيب الماضي
ولكن دعونا نعود إلى ما قبل ذلك بكثير، فتطلعات الولايات المتحدة الأميركية في الحقيقة عن شكل الشرق الأوسط الجديد قد بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بقليل.. وتحديدًا، بدأت الخطة التي وضعت لتلك المنطقة البائسة من العالم، المسالمة شعوبها بطبيعة الحال، في الفترة ما بين 1945 وحتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
فمع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، ساد قطب وحيد من القوى العظمى الغاشمة، بعدما رأى العالم ما يمكن أن تُحدثه القنابل النووية والهيدروجينية، وبدأت سياسات تغيير الأنظمة في عدد من الدول العربية التي لها جيوش نظامية، أظهرت كفاءةً في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، ما بين عدد من الدول العربية وكان على رأسها مصر وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية، وبين "إسرائيل".
وتلك المخططات بدأ التحرك من مكاتب الاستخبارات الأميركية للعمل على تنفيذها، تحت شعار "حرية تحديد المصير"، أي أن على الشعوب أن تحدد مصيرها، وأن الولايات المتحدة والحكومات الغربية المنفتحة قادمة إليكم بالحريات!. ولكن الهدف الحقيقي كان تغيير شكل الشرق الأوسط بأكمله، بما يتناسب مع سلامة وأمان الجانب الإسرائيلي.
وبعد أزمة النفط التي تسببت فيها الحكومتان العراقية والسعودية للأميركان وقت حرب أكتوبر/ تشرين الأول، وجدت الولايات المتحدة الأميركية أن تلك المسألة لا يمكن لها ولا يمكن لأيٍّ من حكوماتها أن تسمح بتكرارها، ويجب أن تكون لأميركا أذرع إمبراطورية قادرة على نجدة الدولة المدللة إسرائيل في أي وقت.
وكما ذكرت، نجد أن فكرة التدخل العسكري وامتداد الحدود الأميركية قد بدأت تلوح في الأفق، منذ نهاية الحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وكذلك انتهاء أميركا من حربها في فيتنام، ما سمح لها بالنظر إلى تلك المنطقة التي لم ترضخ لها في أي وقت، وتسببت في أزمات في الداخل الأميركي؛ بسبب البترول، إضافة إلى العداء العلني الواضح منذ النكبة لهذا الورم الصهيوني، الذي تم زرعه وسطها، دون إرادة من أهلها.
وعليه، نجد أن الأميركان كانوا يتهافتون من أجل التدخل عسكريًا زمن حرب الخليج الثانية.. ولكن ما كبح جماحهم في تلك الفترة كان – أولًا – عدم استعدادهم بالقدر الكافي للدخول واحتلال الأراضي العراقية، ثم – ثانيًا – الجهود التي تم بذلها آنذاك من قبل الحكومتين السعودية والمصرية، من خلال البيانات الرسمية التي نُشرت وقتها قبل التدخل العسكري لحل الأزمة بين الدولتين العراقية والكويتية، لمنع الوصول إلى تدخل عسكري غربي.
وعلى الرغم من إيقاف الأزمة وحلها، فإن الحكومة الأميركية وجدت في تلك الفترة فرصة لزرع العديد من القواعد العسكرية لها، بدعوى مكافحة الإرهاب، وحماية الحقوق والحريات الإنسانية، وحماية المصالح الأميركية الخارجية، مع بدء العمل على تنفيذ مبادئ العولمة بقوة السلاح.. وظهر ذلك جليًا من خلال التطوير الدائم للبنية التحتية لتلك القواعد العسكرية.
وظل الأمر على هذا المنوال حتى تعدّي القوات الأميركية على السيادة العراقية عام 2003م، وزعم جورج بوش الابن، الرئيس الأميركي حينها، وتوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، أن الحرب على العراق بسبب تطويره برنامجًا نوويًّا، يشكل تهديدًا واضحًا للمصالح الأميركية، ولدول الجوار في المنطقة.
إقدام الشعب العراقي في الواقع على الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني يأتي من الإحساس التام به قلبًا وشعورًا، حتى فعلًا بمهاجمة مجموعات مقاومة مسلحة للبنية التحتية في الكثير من القواعد الأميركية الموجودة على الأراضي العراقية
"تريند" الحاضر
والـ"تريند" هو الموضوع الأكثر تداولًا، وطبيعة شعوب الشرق الأوسط السلمية، وأن تلك الشعوب تريد فقط أن تعيش، من ضمن تلك الموضوعات الأكثر تداولًا.
كانت المفاجأة التي حدثت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، عند قيام مجموعات مسلحة من قوات المقاومة الفلسطينية في غزة الفلسطينية، بكسر الأسوار الحديدية لقوات الاحتلال، في محاولة للتعبير عن مقاومتهم لكل ما ذاقوه على مدار السنوات التي سبقت هذا التاريخ.
وبينما كان الإعلام الغربي يسلط الضوء على الأسرى الذين تم اختطافهم من المدنيين في إسرائيل، تجاهل عن عمد أن الشعب الإسرائيلي هو الجيش الإسرائيلي المحتل، كما تجاهل عن عمد ما حدث للشعب الفلسطيني العريق من قتل وإبادة منذ النكبة في 1948م، ومن عمليات تهجير منظمة.
وأيضًا، بينما كانت عملية الإبادة الجماعية التي تحدث للشعب الفلسطيني مجرد "تريند"، أو موضوعٍ من الموضوعات الأكثر تداولًا، ثم سرعان ما عادت الشعوب العربية بأكثرها إلى حياتها الطبيعية بشكل طبيعي، نجد شعبين كانا منذ بداية الأزمة مع المقاومة الفلسطينية بالقلوب والأفعال، منذ اندلاع أزمة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وحتى وقت كتابة هذه السطور، وهما الشعب اليمني العريق، والشعب العراقي العظيم. وإذا نظرنا من كثب إلى هذين الشعبين سنجد التشابهات في المسارات التاريخية أكثر من الاختلافات.
ولكن إقدام الشعب العراقي في الواقع على الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني يأتي من الإحساس التام به قلبًا وشعورًا وإحساسًا، حتى فعلًا بمهاجمة مجموعات مقاومة مسلحة للبنية التحتية في الكثير من القواعد الأميركية الموجودة على الأراضي العراقية.
فلم يذق مثل مُرّ الاحتلال ومرِّ الحصار الذي لحق الشعب الفلسطيني إلا الشعب العراقي، مع خسارة ما يزيد عن مليون شخص، وإصابة ما يزيد عن 110 آلاف، وكل هؤلاء الضحايا من المدنيين في العراق، بمختلف الأعمار.
ولذلك، لم يكن العراق ضمن الشعوب التي تعاملت مع الأمر فقط كتريند، ولكنه قرن القول بالفعل، وما زال – رغم ما أحدثه الاحتلال الأميركي بأراضيه – قادرًا على أن يكون أبيًّا، رأسه في السماء وهو يدافع عن الحق في وجه قوة غاشمة، تعاني من أزمات الشيخوخة في الوقت الحاضر، وكثير من الباحثين يرون أنها تحتضر.
منذ أن بدأت القوات الأميركية تنسحب منه تدريجيًّا، دون نزع مخالبها بشكل كامل، لإبقاء نهبها لخيرات الشعب العراقي التي لم تنتهِ منها بعد، ما زال العراق يعيش في حالة ضبابية، زرعتها عن عمد الحكومة الأميركية
ضباب المستقبل
منذ أن تولى الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئاسة، بدأت الحكومة الأميركية تلتفت إلى الخطر الذي وجدت نفسها فيه، وهو – ربما – الشعور ذاته الذي أصاب الإمبراطور رومولوس أوغستولوس، آخر أباطرة الرومان، بأن النهاية اقتربت.. كذلك، الوقت الهانئ الذي عاشته أميركا بكونها القطب القوي الوحيد للكوكب آن أن ينتهي، مع صعود الصين على المستوى الاقتصادي، وكذلك العسكري، آخذة بيد الدب الروسي الذي بدأ يعود إلى المشهد السياسي.
وجاءت إحدى الكلمات الهامة التي قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال قمة البريكس التي انعقدت منذ أيام، وفيها أنه حان الوقت ليكون للعالم قطب ثانٍ، وبينما اعتبر المحللون أن ما يقصده من تلك الكلمة يقتصر فقط على الجانب الاقتصادي، كان الكثيرون في الشرق الأوسط يرون فيها تهديدًا واضحًا للمكانة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة الأميركية.
ويأتي السؤال: وماذا عن العراق؟ فمنذ أن بدأت القوات الأميركية تنسحب منه تدريجيًّا، دون نزع مخالبها بشكل كامل، لإبقاء نهبها لخيرات الشعب العراقي التي لم تنتهِ منها بعد، ما زال العراق يعيش في حالة ضبابية، زرعتها عن عمد الحكومة الأميركية.
ورغم ذلك، نجد أن العراق حكومةً وشعبًا، ورغم كل ما كان على مدار سنوات عجاف ماضية، ما زال يملك الأمل في بناء دولة، ويسعى بخطة رشيدة نحو تنمية مستدامة تحت شعار: "العراق 2030″، وهو – رغم الضباب – ما زال يقاوم الاحتلال في حربه على الإخوة في فلسطين ولبنان، لتعلن منظمة الأمم المتحدة أن العراق كان الدولة الأكثر ترحيبًا باللاجئين اللبنانيين، وعمل على رعايتهم وحسن استضافتهم.
وعليه – وفي الختام – يمكن القول إنه "مازال هناك أمل" في شرق أوسط حر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.