شعار قسم مدونات

مدرسة عابرة للزمن

blogs نور الدين زنكي
أدرك نور الدين زنكي الواقع المزري الذي ترزح فيه أمته وأن النهوض بالأمة كما هو واجب شرعي فهو واجب أخلاقي (مواقع التواصل)

يمزّقني الألم، وتكويني الحسرة، وتتملكني حيرة قاتلة.. ووسط هذا كله يكبر السؤال: إلى متى هذا الهوان؟!

ثم في لحظة يبلغ فيها الأسى منتهاه تشرق من أعماق التاريخ صورة تحمل للنفس بارقة أمل، لتؤكد لها أن الأمة لن تعدم من يستشعر ضيمها، ويتحسس أوجاعها، فيتلمس الجراح، ويعالج العلل.. ذلك أن التاريخ ينبئنا عن زمان سبق هذا الزمان، اجتمع فيه على الأمة أعداء من الخارج وأعداء من الداخل، ومع هؤلاء وأولئك أضناها عدو من نفسها؛ فوصلت بها الحال إلى مدى بعيد من الضعف والذلة، والتشرذم والانكسار.

بسط الصليبيون نفوذهم على الأرض، ثم امتد النفوذ إلى نفوس أمراء غرقوا في الأهواء، وأخلدوا إلى الضعف، واستمرؤوا الخيانة

كان زمانًا، اجتاحت فيه جيوش الصليبيين مساحات واسعة من بلاد المسلمين، بجنود بلغ عديدهم عشرات الآلاف، تداعوا من بقاع أوروبية شتى، حاملين لأحقادهم، محمولين بأطماعهم.. أتوا وقد جلبوا معهم اُسرهم وأهليهم، يريدون استيطان البلاد، ويسعون لاستئصال شأفة الإسلام، فاستولوا على بيت المقدس، وأقاموا في الشرق دولًا وإمارات.

لم تجد الجيوش الغازية ما يوقف تقدمها إلى غايتها؛ فالخلافة أضعف من أن تستطيع حماية نفسها، فضلًا عن أن تذود عن أطراف البلاد، بل إن الخلافة صارت خلافتين بعد أن أقام العبيديون في مصر ما أسموه خلافة فاطمية، وصاروا خنجرًا مسمومًا في خاصرة الأمة، لطالما حركته أيدي أعدائها.. ودولة كانت قوية مهابة متماسكة صارت دويلات واهية متناحرة.

إعلان

بسط الصليبيون نفوذهم على الأرض، ثم امتد النفوذ إلى نفوس أمراء غرقوا في الأهواء، وأخلدوا إلى الضعف، واستمرؤوا الخيانة.. حتى إن معين الدين أنر، حاكم دمشق، بلغت به الخِسَّة أن يتملق للصليبيين، ويعرض عليهم المال، ويتنازل لهم عن حصن بانياس، بل ويسلمهم عددًا من كبار أمرائه؛ ليكونوا رهائن ضمانًا لتعهداته لهم، مقابل أن يكونوا عونًا له في تثبيت سلطانه!. واقع لو نظرنا إليه الآن بعين، وبالأخرى إلى ما نعايشه اليوم، فلن نملك إلا أن نقول: "ما أشبه اليوم بالأمس!".

هكذا كان المشهد في النصف الأول من القرن السادس الهجري، ووسط هذا المشهد بزغ نجم نور الدين محمود زنكي..

تثيرني الهالة التي أحاطت بسيرة ذلك العلم، فأدنو من عالمه، محاولًا تعرُّف بعض ما فيه، واكتشاف شيء من أسراره، فأجدني أبادر أولًا إلى الوقوف مليًّا عند كلمات له حفظتها كتب التاريخ، يقول فيها: "إني لأستحي من الله أن يراني مبتسمًا، والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط".. وإنما استوقفني هنا أنني وجدت في الكلمات مدخلًا لفهم حقيقة الرجل، وسبر أغوار نفسه ومكنوناتها؛ إذ بدت لي تعكس وعيًا لحقيقة الانتماء إلى أمة، وإدراكًا لمقتضيات ذلك الانتماء، وشعورًا عاليًا بالمسؤولية، وفهمًا عميقًا لحقيقة الإيمان بالله.. ومن ذلك كله ينبثق هاجس القلق الإيجابي، ليدفع إلى تلمُّس طريق الخلاص، والسير نحو الغايات السامية.

آلت ولاية حلب إلى نور الدين زنكي بعد مقتل أبيه عماد الدين، ذلك الأسد الذي بدأ الجهاد المنظم ضد الصليبيين، وقد فرحوا لمقتله بعدما ذاقوا بأسه في المعارك، التي حقق فيها انتصارات باهرة عليهم

وإذا ما مضينا لنستطلع أبرز المحطات في مسيرة حياة نور الدين زنكي، فسيتأكد لنا أن عبارته تلك التي قالها لم تكن زخرفًا من القول، ولا زينة يتصنعها، بل كانت حقيقة نطق بها دفق مشاعره.

أدرك نور الدين زنكي الواقع المزري الذي ترزح فيه أمته، وأنه يعيش في زمان عصيب، يتحمل فيه مسؤوليات جسيمة، لا سيما أن النهوض بالأمة كما هو واجب شرعي، فهو واجب أخلاقي، وواجب إنساني!. ولكن.. لن يتمكن من النهوض بأمته من لم تنهض به نفسه أولًا!. وهو على هذا الفهم سار، وبمقتضاه عمل؛ فنشأ نشأة قويمة.. عُرف بتقواه، وتميز بعدله، وظهر باجتهاده وعلمه، وبرز بشجاعته وفروسيته، ونال محبة الناس لما رأوا من اهتمامه بشؤونهم ورعايته لمصالحهم.

إعلان

قال عنه العلامة ابن كثير: "كان رحمه الله كثير المطالعة للكتب الدينية، متّبعًا للآثار النبوية، محافظًا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محبًّا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يُسمَع منه كلمةُ فُحشٍ قطّ في غضب ولا رضا، صموتًا وقورًا".

آلت ولاية حلب إلى نور الدين زنكي بعد مقتل أبيه عماد الدين، ذلك الأسد الذي بدأ الجهاد المنظم ضد الصليبيين، وقد فرحوا لمقتله بعدما ذاقوا بأسه في المعارك، التي حقق فيها انتصارات باهرة عليهم، وحرر أجزاء واسعة من إمارة الرُّها التي كانوا قد سيطروا عليها سابقًا.

وبعد مقتل عماد الدين، تحركت أطماعهم من جديد، وبدا لهم أن الفرصة صارت مواتية لإعادة احتلال الرها، وانطلق جوسلين الثاني بجيشه لهذه الغاية، فكانت المفاجأة إذ وجدوا أن الأسد الذي رحل قد خَلَفه شبل هصور، أذاقهم كأس المرارة بأشد مما ذاقوه من قبل.. ولا غرابة؛ فكم من شبلٍ بزَّ الأسد في عنفوانه وبأسه!

تمضي سيرورة الأحداث في مصر بطريقة تستدعي أن يجهز نور الدين حملة بقيادة أسد الدين شيركوه، ويرسل معه ابن أخيه صلاح الدين، وذلك لرد الصليبيين الذين غزوها طمعًا بثرواتها

كان ذلك بعد توليه الحكم بأيام قليلة.. لم تشغله أبّهة التنصيب ومراسم استلام السلطة، بل ترك ذلك كله، وحمل على جوسلين وجيشه لينتصر عليه انتصارًا ساحقًا، ويرده إلى حيث أتى مذمومًا مدحورًا يجر ذيول الخيبة والخسران. وكانت تلك البداية عنوان مرحلة قادمة حافلة بالجهاد على جبهات عديدة، رد فيها مكائد المعتدين.

وكرد فعل على سقوط إمارة الرها تطلق أوروبا حملتها الصليبية الثانية، التي دعا إليها البابا إيجين الثالث، وقُدر عدد جنودها بمليون، وسميت حملة الملوك، وكان على رأس قادتها لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا.. ويأتي حصاد الحملة في مواجهتها مع نور الدين مزيدًا من الخيبات والانكسارات.

إعلان

لم يكن خافيًا على نور الدين ضرورة أن تتحول المناطق المحيطة بالإمارات الصليبية إلى جبهة واحدة، لكي لا يهدم غيره ما يبنيه هو، وكان عليه لتحقيق ذلك أن يعمل على ضم دمشق ومصر.. ويهيئ الله له الأسباب لذلك؛ إذ يأتي ضمه لدمشق بعد أن فرض عليها حصارًا إثر اتفاقات مهينة بين حاكمها وبين الصليبيين، تأباها شريعة الله، وتنافي معاني النخوة والكرامة.

حرص نور الدين على سلمية الحصار، وألا يراق فيه دم مسلم، ليدخل القائد بعد ذلك المدينة بمعاونة أهلها الذين فتحوا له باب المدينة الشرقي، واستقبلوه بالهتاف "نور الدين يا منصور، وبسيفك فتحنا السور"، يعلنون فيه سرورهم لمقدمه، بعدما عرفوا من طيب سيرته ما جعلهم يأملون الخلاص على يديه.

ثم تمضي سيرورة الأحداث في مصر بطريقة تستدعي أن يجهز نور الدين حملة بقيادة أسد الدين شيركوه، ويرسل معه ابن أخيه صلاح الدين، وذلك لرد الصليبيين الذين غزوها طمعًا بثرواتها، بعدما وجدوها المجال الوحيد الباقي لهم للتوسع إذ حوصروا من جهة الشام، وقد أطمعهم بذلك الضعف الذي حلّ بالدولة العبيدية؛ فينتصر شيركوه على الصليبيين، ويدحرهم عن مصر، ويتولى وزارتها.. ثم يتوفى بعد ذلك بشهرين، فيعين نور الدين مكانه صلاح الدين الأيوبي.

يكفي للتدليل على عظمة النشاط العمراني الذي أحدثه السلطان التذكير بأن البيمارستان النوري (المشفى)، الذي بناه في قلب مدينة دمشق بقي يعمل حوالي ثمانمئة سنة، وتخرَّج فيه وتعلَّم كبار الأطبَّاء مثل ابن سينا والزهراوي

وبتمام هذه الخطوة صار الصليبيون محاصرين بالدولة الزنكية، فتهيأت الأجواء ومُهدت الأرضية لمرحلة حاسمة قادمة.. فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي، وكان ذلك بعد وفاة نور الدين بأربعة عشر عامًا.

ويسأل سائل، فيقول: ولكن الدولة ليست انتصارات عسكرية وفتوحات فقط، فهناك بناء وعمران، وللناس مصالح وضرورات معيشة لا بد أن تراعى، فأين كان نور الدين من هذا؟ وفي تتبع الإجابة عن هذا السؤال نشير أولًا إلى إجماع كتب التاريخ على ما اتصف به الزنكي من العدل والاهتمام بأمور الناس ومعايشهم، ومراعاته حاجات الفقراء والمساكين وذوي الحاجة.

إعلان

أما عن جانب العمران فنتوقف عند ما ذكره الرحالة ابن جبير في وصفه لمدينة دمشق وحسن بنائها، وقد زارها بعد وفاة نور الدين بأعوام قليلة، وهي التي اتخذها السلطان عاصمة بعد ضمها إلى دولته.

يقول ابن جبير: "وبناء البلد ثلاث طبقات، فيحتوي من الخلق على ما تحتوي ثلاث مدن، لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقًا، وحسنه كله خارج المدينة لا داخلها، وبدمشق ما يقرب من مئة حمَّام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين دارًا للوضوء يجري الماء فيها كلها، وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ لأن المرافق بها كثيرة.. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظامًا وأبدعها صنعًا".

ويكفي للتدليل على عظمة النشاط العمراني الذي أحدثه السلطان التذكير بأن البيمارستان النوري (المشفى)، الذي بناه في قلب مدينة دمشق بقي يعمل حوالي ثمانمئة سنة، وتخرَّج فيه وتعلَّم كبار الأطبَّاء مثل ابن سينا والزهراوي.

وذلك لا يعني بطبيعة الحال أن اهتمامه كان مقتصرًا على العاصمة، فالتاريخ يحدثنا عن زلزالين عنيفين في عهده ضربا وسط البلاد وشمالها، وأحدثا تدميرًا وخرابًا واسعين، فنهض نور الدين بهمة عالية لإعادة إعمار ما تهدم، فعادت البلاد أحسن مما كانت.

لُقِّب نور الدين زنكي بسادس الخلفاء الراشدين، وهو لذلك أهل.. وعُرِف بالملك العادل، وهو به حقيق.. ولكثرة ما كان يسأل الله الشهادة لُقِّب بالشهيد

ولكن، كل ذلك البنيان على عظمته تتضاءل أهميته بالقياس إلى بناء آخر، أعطاه زنكي الأولوية والمزيد من الاهتمام.. ذلكم هو بناء الإنسان! إذ لم يكن هَمُّ السلطان بناء مجد شخصي يرافقه، ثم يرتحل معه إذا رحل، بل كانت الغاية بناء دولة تقيم شريعة الله في الأرض، وترسخ أسباب القوة والعدل، والعزة والكرامة.. وهذه عمادها الإنسان القويم!.

وانطلاقًا من هذا الفهم أعطى نور الدين اهتمامًا بالغًا للعلم والتعليم، وأسس المدارس، واستقدم آلاف العلماء والمربين المشهورين للتدريس، ونشر التعليم الإسلامي السويّ، وراعى دَور التعليم في مواجهة البدع والانحرافات العقدية والمذاهب الهدامة، ونصر السنة المطهرة.

إعلان

أما وقد عرفنا هذا كله، فإنه سيتملكنا العجب.. إننا نتفهم إمكانية أن ينجح قائد أو رجل دولة في ميدان من الميادين: عسكري أو سياسي أو اقتصادي أو غير ذلك، لكن أن يتحقق تألقه في هذه الميادين مجتمعة، فالأمر قد يكون محل تساؤل واستغراب.. لكن مسيرة حياة نور الدين تؤكد لنا أن الأمر ممكن ما دام ذلك القائد صادقًا في حرصه على الوصول إلى الغاية، حافظًا للأمانة التي أوكلت إليه.. وقد كان نور الدين زنكي كذلك.

واليوم، نجد أن كثيرين منا قد سمعوا عن صلاح الدين وانتصاراته، لكن الذين سمعوا بنور الدين وإنجازاته قد يكونون قلائل، ولن يضيره ألا نعرفه ما دام أن الله يعرفه.. ولكن، قد يكون من المناسب أن نتبين حقيقة أن الثاني كان واحدة من حسنات الأول.

لُقِّب نور الدين زنكي بسادس الخلفاء الراشدين، وهو لذلك أهل.. وعُرِف بالملك العادل، وهو به حقيق.. ولكثرة ما كان يسأل الله الشهادة لُقِّب بالشهيد.

ذلكم هو نور الدين.. وقد أكدت لنا مسيرة حياته أن التحرر من واقع الضعف ممكن، والتخلص من حياة الذل متاح، والنهوض بأمة أثخنتها الجراح ليس مستحيلًا، وقد خط لنا لذلك نهجًا لا تقتصر صلاحيته على زمان عاش فيه، بل كان ذلك النهج وسيبقى مدرسة عابرة للزمن.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان