خلافًا لانطباعها المسبق، وجدت أفغانستان الأكثر أمنًا وفقرًا من بين عشرات الدول التي زارتها بصفتها سفيرة للعمل الإنساني!. وتعبر الناشطة الاجتماعية ليلي روزياني عن تجربتها بالقول: إن الفارق الثقافي أكثر ما صدمها لدى أول زيارة لها إلى أفغانستان، وفي عهد طالبان.
لقد استفز جندي مشاعر السيدة الماليزية بعد تخطيها جسر الصداقة المقام على نهر جيحون، وذلك بقوله: "تفضلي إلى بيتنا"، ورأت في الدعوة فألًا غير حسن بعد وداع مدينة تِرمذ الأوزبكية باتجاه مديرية "حِيرتان" الأفغانية، وذلك في بداية رحلة تتوقع أن تكون شاقة ومليئة بالإثارة.
تشجعت روزياني وطلبت سِيلفي، فهي معروفة بنشاطها على وسائل التواصل الاجتماعي واعتادت على هذا السلوك في بلدها، لا فرق في السِيلفي إن كان مع رجال أو نساء، فهذا تقليد غير مستهجن في بلدها أو البلدان الآسيوية المحيطة به
ووسط تردد وانفعال، طلبت التقاط صورة للجندي الطالباني الذي يمتد شعره طويلًا من تحت قبعته التقليدية، وكأنه لتوّه قد نزل من ثكنته وسط الجبال لتسلم مهمة في حراسة الحدود، وكانت لغة الإشارة هي الوحيدة التي يمكن التفاهم من خلالها؛ بسبب اختلاف اللغة، فاستأذن رئيسه الذي يقف على بعد عشرات الأمتار، وعاد ليعطيها بندقيته، فزادت مفاجأتها، وصارت الحَيرة حَيرتَين.
لم يمضِ وقت طويل حتى تبين للسيدة، القادمة من الجنوب الشرقي للقارة الآسيوية، أن الضابط أذن للجندي بأن تصوره دون سلاح، ولعلها كانت المرّة الأولى في حياتها التي تمسك فيها ببندقية رشاش، أخذتها بيد والتقطت له صورة باليد الأخرى.
تشجّعت روزياني وطلبت سِيلفي، فهي معروفة بنشاطها على وسائل التواصل الاجتماعي واعتادت على هذا السلوك في بلدها، لا فرق في السِيلفي إن كان مع رجال أو نساء، فهذا تقليد غير مستهجن في بلدها أو البلدان الآسيوية المحيطة به، أما الجندي الأفغاني فاحمر وجهه واصفر بين زملائه المرابطين على الحدود، ولم يكن أمامه سوى الوقوف متصلبًا دون ميلان للانتهاء من صورة العمر التي لن تتكرر.
بدأت رحلة المغامرة لامرأتين غريبتين، برفقة دليل وسائق سيارة أجرة محليين، من حيرتان إلى مدينة مزار شريف، عاصمة الشمال الأفغاني، كما يحب أهلها أن يصفوها، وكانت الرحلة تستغرق عدة ساعات عندما كان الطريق ممهدًا للجيوش العابرة من وإلى وسط آسيا، أما وقد غادرها جنود الشرق والغرب فأنّى لهذا الطريق من صيانة، ومن يعيد بناءه أو ترميمه من آثار انفجارات قديمة أو سيول حديثة، وقد فرضت دول كبرى على أفغانستان عقوبات اقتصادية وجردتها من "سويفت كود"، رمز التحويل الدولي للنقود عبر البنوك.
لا بيوت دائمة للضحايا، أمر مفهوم ويتقبله المساكين، لكن ألواح الإسبست المستعملة في إقامة المنزل متهمة بإشعاعات تسبب مرض السرطان، ومحظورة في دول كثيرة، وعلى فقراء بغلان اللعب بطائر مقصوص الجناحين إلى أن يحصلوا على الطيار
تمكين المرأة
حملت روزياني مهمة مساعدة النساء الفقيرات في مزار شريف، وما أكثرهن في أفغانستان، حيث يقدر عدد الأرامل بأكثر من مليونين، وذلك بتمكينهن من الاعتماد على أنفسهن بتعليمهن مهنة، ولا ينبغي الذهاب بعيدًا بالتفكير في مهن مثل المحاماة أو الطب، فتلك مهن مصيرها الانقراض إثر وأد تعليم الفتيات، والاكتفاء بتدريب الكبار فن الخياطة، وتمليكهنّ آلات خياطة بأسعار زهيدة لا يقدرن على شرائها، تلك الآلة التي حررت نساء الغرب من الفقر، وحولتهن إلى إماء في مشاغل الملابس.. والآن في دول العالم الثالث.
وفي الشمال الأفغاني ذاته، اختارت زميلتها فرح لي من مؤسسة Childrity مساعدة ضحايا الفيضانات، هناك باتجاه العاصمة كابل حيث توجهتا إلى ولاية بغلان، تلك الولاية التي عانت كثيرًا من آثار الحروب والكوارث الطبيعية على مدى عقود، وإذا كانت الحاجة الماسّة لضحايا الفيضانات هي الإيواء، فإن الميزانية تكفي لإقامة عدة بيوت مؤقتة لا تتجاوز تكلفة الواحد منها 6 آلاف دولار.
لا بيوت دائمة للضحايا، أمر مفهوم ويتقبله المساكين، لكن ألواح الإسبست المستعملة في إقامة المنزل متهمة بإشعاعات تسبب مرض السرطان، ومحظورة في دول كثيرة، وعلى فقراء بغلان اللعب بطائر مقصوص الجناحين إلى أن يحصلوا على الطيار.
يتذكر أهل بغلان بحسرة مذبحة عام 2010 التي راح ضحيتها مئات الأطفال في حفل تخريجهم.. وبغلان -كغيرها من مناطق أفغانستان- غنية بالموارد الطبيعية، ولكنها تعاني الفقر المدقع، فهي تضمّ أكبر مصنع للإسمنت في البلاد، وجلّ ناتجه يصدَّر إلى دول الجوار، ليس لأنه فائض عن الحاجة المحلية بل لأن معظم الناس لا يقدرون على تكاليف البناء الحديث، ويقنعون ببيوت طينية تقليدية.
أما التعدين في مناجم الفحم الحجري، فينطلي على مخاطر تهدد حياة العمال الكادحين، ثم يباع بأسعار رخيصة محليًا لمن لا يقدرون على دفع فاتورة الكهرباء، أو ثمن وقود نظيف للتدفئة، أو أقل ضررًا على البيئة والصحة، ومردوده بالنسبة للتصدير قليل نظرًا لتكلفة النقل العالية التي تضعف التنافس في السوق الدولية.
لم تتعرض السيدتان لمضايقات خطرة مذ دخولهما من بوابة حيرتان إلى أن خرجتا منها إلى ترمذ، وقد تكفل الرجال بضمان أمنهما كل الوقت، وعندما تجرأ متطفل على لمس إحداهما في أحد أسواق مزار شريف ناله ما ناله من توبيخ جميع مَن في السوق
إثارة ومضايقات
مضى ثلثا الرحلة بسلاسة دون منغصات سوى ما حمله الثنائي النسوي من توجس حول تعامل طالبان والأفغان عمومًا مع النساء، كما تقول هاوية السياحة الخيرية.
سمعتا كثيرًا عن حالات فقر حقيقية وعايشتاها، وعن مبالغات لاستدرار العطف، عهِدها كل من زار أفغانستان، منها قصص بيع أسر لأطفالها من شدة الفقر، لكنّ أحدًا لم يشهد بعينه حالة بيع الأطفال.
وقد عرضتا على مرافقهما في حيرتان لبس "الشادر"، وفق التسمية الأفغانية للعباءة التي تستر كل جسم المرأة، وفيها شباك يسمح لعينيها بالإطلالة على عالمها، لكن رفيق الرحلة أقنعهما بأن لا حاجة للبس العباءة وأنهما في مأمن.
ولم تتعرض السيدتان لمضايقات خطرة مذ دخولهما من بوابة حيرتان إلى أن خرجتا منها إلى ترمذ، وقد تكفل الرجال بضمان أمنهما كل الوقت، وعندما تجرأ متطفل على لمس إحداهما في أحد أسواق مزار شريف ناله ما ناله من توبيخ جميع مَن في السوق.
لم تُعرض القضية على محتسبي أو عسس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكفل أهل السوق بالمهمة، ولم ينجّه سوى وساطة روزياني للعفو عنه، وتوصيفها الحالة بأنها تطفل وليست تحرشًا.
وبقيت عبارة: "تفضلي عندنا على البيت" تتردد على أسماعها حتى غادرت بوابة حيرتان، عائدة إلى ماليزيا، وبعد أن كنا نلتقي في مكاتب العمل في مناسبات عامة، قالت عند لقائها بي: تفضل عندنا في البيت مع أسرتك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.