لم يكن مستغربًا، على الأقل بالنسبة لي، أن يسارع الرئيس الفرنسي لتهنئة دونالد ترامب بفوزه بالولاية الثانية لرئاسة أميركا، بعد دقائق من الإعلان الإعلامي لفوزه؛ فلم ينتظر ساكن الإليزيه النتائج الرسمية.. وتفسيري أن عوامل نفسية أكثر منها بروتوكولية كانت وراء هذه التهنئة الـ"فيمتو ثانية" للرئيس الفرنسي، مدفوعًا بسابق التعامل مع الرجل.
كما ترك ترامب حالة من الرغبة الأوروبية في استقلال القرار الأوروبي، ترك الرئيس بايدن المزيد من هذه الرغبة بعد أن ورط الأوروبيين في حرب أوكرانيا
اتسمت علاقة الرئيس ترامب مع قادة الاتحاد الأوروبي بحالة من التقلبات، لكنها في المجمل، وخاصة مع الزعيمين الكبيرين في الاتحاد: ألمانيا وفرنسا، كانت معقدة إلى حد الخلاف المنهجي الكامل، لا سيما فيما يتعلق بقضايا الهجرة والتجارة والسياسة الخارجية تجاه روسيا.
وازداد الأمر تعقيدًا عندما قرر ترامب إلزام أوروبا بدفع ثمن حمايتها، كما ادعى وقتها، وهو ما خلف رد فعل تلقائي، دفع دولًا عديدة في حلف "الناتو" لزيادة حصتها في ميزانية الحلف تحت ضغوط ترامب، وهو ما حمّلها أعباء ضغطت بالنتيجة على السياسات الاقتصادية الداخلية.
كما أنّ سياسات ترامب الغاضبة من ميل الميزان التجاري باتجاه أوروبا خلقت نزاعات تجارية، ووتّرت العلاقات الاقتصادية بين القارة العجوز وراعي البقر الأميركي، وهو ما جعل أصوات أصحاب الدعوة إلى زيادة الاستقلالية الأوروبية تتعالى.
وفي المقابل، كان تنامي التيار الشعبوي في أوروبا داعمًا للضغوط الترامبية على قادة أوروبا.. ولئن كنت لا أملك دليلًا على دعم ترامب لهذا التيار الذي تنامى كثيرًا في أوروبا في فترة رئاسته، فإني أكاد أجزم أن توليه رئاسة أكبر وأقوى دولة في العالم كان ملهمًا لهذا التيار، وهو ما صبّ بالنتيجة في صالحه، واستخدمه كورقة ضغط.
وكما ترك ترامب حالة من الرغبة الأوروبية في استقلال القرار الأوروبي، ترك الرئيس بايدن المزيد من هذه الرغبة بعد أن ورط الأوروبيين في حرب أوكرانيا. وفي هذا المقام، أدعوك – عزيزي القارئ – للعودة إلى سلسلة مقالات "أوكرانيا حرب الفرص" بأجزائها الثلاثة.
لكن بايدن – بالنتيجة – ورّط الأوروبيين أكثر، وزعزع أمنهم القاري بدفع روسيا إلى غزو أوكرانيا، لكنه مع ذلك يحسب له، بالمنظور العسكري لا السياسي، إدخال بيادق جديدة ومتقدمة باتجاه روسيا، السويد وفنلندا، لحلف "الناتو"، لكنه ترك إرثًا سيستفيد منه ترامب في إطار سياسة الابتزاز التي يتقنها.
لعل ألمانيا وفرنسا كانتا أكثر دول الاتحاد تأثرًا بهذه الحرب، فالأولى تأثرت بنقص إمدادات الطاقة إلى حد أثر بشكل كبير على قطاع التصنيع، الذي يعتمد على الطاقة بكثافة، ما أدى إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي في ظل زيادة في مخصصات الإنفاق العسكري
تتلخص سياسة ترامب الخارجية في ردع المنافسين من خلال القوة لا التحالفات، وتقليص الالتزامات الخارجية، وحمل الحلفاء والشركاء على دفع ثمن الحماية الأميركية، ما يترجم على نحو يلخص في (إنفاق أقل، والفوز أكثر).
وذلك يعني أن الأوروبيين عليهم من الآن فصاعدًا أن يدبروا "الإتاوات" لراعي البقر، وهو ما يبدو متعذرًا بعد عامين من حالة الاستنزاف التي خلفتها سياسة بايدن باتجاه أوروبا، وتطلبت المزيد من الإنفاق العسكري والانكماش الاقتصادي، ومن ثم المزيد من التضخم، الذي بلغ في بعض الأحيان 4%؛ بسبب ارتفاع أسعار الطاقة؛ لانخفاض الإمدادات من روسيا.
ولعل ألمانيا وفرنسا كانتا أكثر دول الاتحاد تأثرًا بهذه الحرب، فالأولى تأثرت بنقص إمدادات الطاقة إلى حد أثر بشكل كبير على قطاع التصنيع، الذي يعتمد على الطاقة بكثافة، ما أدى إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي في ظل زيادة في مخصصات الإنفاق العسكري. وغير بعيد عن الحالة الألمانية، عانت فرنسا خلال هذه الفترة ما عانته جارتها، وزاد عليها تمرد دول غربي إفريقيا، ما أرهق خزينتها التي تسحب منها على المكشوف.
مع زيادة النفقات وانخفاض الناتج المحلي، اندفعت الدولتان الكبيرتان إلى زيادة الإنتاج العسكري، على أمل تخفيض تكاليف الاستيراد، وبيع فائض الحاجة، وجني مزيد من الأرباح، على أمل أن تعوضا ما يُستنزف من موارد في حزم الدعم الاجتماعي على شكل معونات، لاستقرار الأمن المجتمعي، لا سيما أن العالم قد خرج حديثًا من أزمة جائحة كورونا، التي تركت ندبة على جبين الاقتصاد الدولي، وبالتالي على الدولتين الأوروبيتين الكبيرتين.
ومع كل ذلك، مخاوف لا تنتهي من استمرار الحرب في أوكرانيا على المستوى الأمني، وكذلك من جهة ضغط اللاجئين الأوكرانيين.
مع إعداد القادة الأوروبيين إستراتيجيتهم للسنوات الأربع القادمة، يلحّ السؤال: هل سيدفع العرب الفاتورة المؤجلة لحرب أوكرانيا؟
ولما كان على الأوروبيين أن يتولوا زمام القيادة في أزمة أوكرانيا، لما تمثله لهم من عقبة تحول دون استمرار معدلات النمو، فإنه على الاتحاد الأوروبي أن يتقاسم عبء دعم كييف للصمود أمام الدب الروسي، الذي استدعى بيونغ يانغ كحليف ليزيد مخاوف أوروبا، الأمر الذي يزيد أعباء أوروبا عامة والدولتين الكبيرتين فيها، ألمانيا وفرنسا، خاصة.
وإذ يرى بعض ساسة الاتحاد الأوروبي في الاتجاه جنوبًا لإيجاد منفذ أكبر لبيع منتجاتهم الاستهلاكية و"الإهلاكية" – الأسلحة – للدول العربية، فإن ذلك سيكون صعبًا مع عودة ترامب، رجل الأعمال الرئيس.
ففي الوقت الذي يستعد فيه ترامب لفترة رئاسية ثانية بعد فوزه الأخير، يعيد القادة الأوروبيون مجددًا تقييم إستراتيجياتهم للمشاركة مع الولايات المتحدة، مستفيدين من تجارب الماضي ومستعدين في الوقت ذاته للتحديات المستقبلية.
ومع إعداد القادة الأوروبيين إستراتيجيتهم للسنوات الأربع القادمة، يلحّ السؤال: هل سيدفع العرب الفاتورة المؤجلة لحرب أوكرانيا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.