أشرنا في المقالة السابقة إلى الأهمية الخاصة لمقالة "داخل الحوت"، في كتاب جورج أورويل "لماذا أكتب؟"، وذكرنا أن صاحبها استطاع أن يمارس نقدًا متوازنًا عند الحديث عن نصوص الأدباء الآخرين..
فلقد راح أورويل في مقالته الرائعة تلك ينقد النصوص بكثير من الإنصاف والعقلانية، ويذكر قيمة النص وتأثيراته البَعدية، وتقاطعاته مع الأعمال الأخرى، وحين ينتقد رواية ما فإنه يركز على الضعف الفني غالبًا، أو على فحش الموضوع في حالات نادرة.
وهو بكل الأحوال ناقد أدبي سياسي في المقام الأول، إذ لم يتمكن أن ينتزع سيَّالةَ السياسي من يديه، فهو يجد نفسه في كل مرة يذكر فيها اسم كاتب يربطه بتوجه سياسي ما، وسواء كان ذلك الكاتب ذا انتماء حزبي أو لا فإن أورويل سوف يسوقه رغمًا عنه إلى حظيرة حزب ما.. كانت نشوة السياسة تعبث بعقله دون رحمة.
أورويل بالأساس قدَّمَ تأريخًا نقديًا زاخرًا بالمعلومات والتحليل تجاه عدد كبير من نصوص الأدب الإنجليزي، يَحْسن بالقارئ وبالباحث المتخصص أن يكون ذا إحاطة بها
أما عن ذلك العنوان الفريد الذي اختاره لمقالته "داخل الحوت" فهو عنوان ذكي ورمزي للغاية، فهو حين قرر كتابة هذا النقد المطول كان يودّ التركيز على شيء ما يشغل باله، وهو علاقة الكاتب بالواقع: هل يجب على الكاتب أن يكون ثائرًا حقيقيًا؟ يجيب أورويل مخاطبًا الكاتب: "اُدخُلْ داخل الحوت، أو بالأحرى: اعترفْ أنك داخل الحوت، سَلّم نفسك لتحولات العالم، توقفْ عن محاربتها أو التظاهر أنك تسيطر عليها، اِقبلْها ببساطة، تحمَّلْها، سجِّلْها، هكذا تبدو الوصفة التي يُرجَّح أن يتبناها أي روائي حساس الآن..".
أنا تمنيت لو يكون عنوان الكتاب كله هو عنوان هذه المقالة البديعة "داخل الحوت"، أو أن يكون هناك تغيير طفيف لكن جوهري ليصبح "في بطن الحوت"، لأنه سيكون أكثر مطابقة للنص النموذجي التاريخي العالي: قصة سيدنا يونس عليه السلام، التي منها اقتبس أورويل عنوان مقالته وفكرتها، وهي فكرة الاستسلام مع التحرك داخل هذا "البطن" الذي لا يعبأ بثوراتنا تمامًا حتى يقذف بنا إلى يابسة النجاة أو الفناء.
كان لدى أورويل على ما يبدو قلق وجودي مرتبط بسؤال: لِمَاذا أكتب؟ (وهو عنوان كتابه وإحدى مقالاته).. كل هذه النصوص وكل تلك المؤلفات، أكان لها أثر كبير في تغير العالم، أم الجميع من أولئك الأدباء كانوا مجرد ذرات صغيرة في بطن الحوت، يتحرك بهم حيث يشاء، ولا يعبأ بأيٍّ مما يكتبون؟
لكن إذا شاء القارئ ألا ينغمس كثيرًا في روحانية العنوان فله ذلك؛ لأن أورويل بالأساس قد قدَّمَ فعلًا تأريخًا نقديًا زاخرًا بالمعلومات والتحليل تجاه عدد كبير من نصوص الأدب الإنجليزي، يَحْسن بالقارئ وبالباحث المتخصص أن يكون ذا إحاطة بها.
يسعى أورويل بكل ما أوتي من قوة في التعبير أن يُحاجِجَ تولستوي ويحتجَّ لشكسبير، حتى راح يستعمل عبارات شديدة الأنانية والذاتية، ويعمل على وصم تولستوي بكل مساوئ الأخلاق والفساد والتعجرف والظلم
لقد طرح أورويل فكرة رائعة عن الأدب الشائع، أو الأدب ذي الشعبية والأدب الرائج، فهو في مقالته "كتب جيدة رديئة" (لا أدري ما إن كانت الترجمة دقيقة هنا)، يرى أن الكتب التي نالت شعبية عارمة قد لا تكون ذات قيمة فنية كبيرة؛ لأنها نصوص بسيطة نالت بضربة حظٍّ شهرة فائقة، واستمرت مقروئيتها طيلة سنواتٍ أو عقودٍ، بل ربما إلى قرون.
يحاول أورويل أن يبحث السبب الحقيقي في ذلك، لكنه لا يتيقن من شيء محدد.. ربما فقط أن التاريخ وفَّر لها ظروفًا، بحيث ظهرتْ في زمان شهد اللهفة نحو جديد ما، واختير لها عنوان جذاب على سبيل المثال، وقد تكون صياغتها اللغوية مستحسنة لدى العامة، أو قد يكون الموضوع جديدًا ومُثيرًا لدى معظم فئات الناس، فيتلقفونها ويتناصحون بها، وتصبح فاكهة مجالسهم وأسمارهم، وتكتب عنها الصحافة.
وهذا الملحظ الذي سماه أورويل بـ "أدب رديء على نحو جيد" يستعمله كذلك أدباء كبار في عصرنا، لاتخاذ موقف حذر تجاه الروايات الأكثر مبيعًا "bestseller"، التي تكتب عنها كبريات الصحف الغربية.
ربما هو قدَر عالَم الأدب، مثلما يكون القدر في عالم الإنسان أن تنال المرأة متوسطة الجمال "عريسًا" صعب المنال من ذوي الأبهة ومن الأسر البورجوازية، بينما لا تحظى الأشدُّ جمالًا إلا بـ "عريس" مغمور، أو أنها لا تتزوج أصلًا! لا يمكن محاكمة أي طرف هنا، كما لا يمكن محاكمة "شعبية" رواية بسيطة و"انحسار" رواية أعظم منها.. هناك دائمًا حُكم سماوي للقدر لا مَحيد عنه.
أما حين يتجه أورويل شرقًا؛ وفي مقالته عن ليو تولستوي، الأديب الروسي الكبير، فإننا نرى وجهًا آخر للكاتب البريطاني، فهو يتخذ موقف المدافع عن الأدب الإنجليزي تجاه تولستوي الذي أطاح بشكسبير، وكان يرى فيه أديبًا تافهًا للغاية، ويتعجب من شهرته.. هنا يسعى أورويل بكل ما أوتي من قوة في التعبير أن يُحاجِجَ تولستوي ويحتجَّ لشكسبير، حتى راح يستعمل عبارات شديدة الأنانية والذاتية، ويعمل على وصم تولستوي بكل مساوئ الأخلاق والفساد والتعجرف والظلم، رغم ما كان يُبديه الأديب الروسي من تهذيب وكرم وهدوء في حياته وعلاقاته.
حين نختم الكتاب بكل ما فيه من مقالات نقدية وتافهة، ومن معلومات وأسماء شخصيات، وكتب ومذاهب وتواريخ وسياسات، وأحوال نفسية وتأملات فلسفية وأفكار مختلفة؛ سنندهش أن الكاتب كان لا يرى سوى نصف العالَم!
حين يقرأ أحدنا مقالة أورويل الموسومة بـ"ليو تولستوي والبهلول" فإنه سيرى وجهًا بشعًا للأديب الروسي العظيم، لكن عليه أن يتنبه إلى أن موقف جورج أورويل كان مجرد موقف ذاتي، ليس فيه أدنى حد من الموضوعية والنزاهة، عكس ما كان عليه تمامًا حين كان ينتقد ويوازن نصوص الأدباء الإنجليز في مقالته التي أشرنا إليها "داخل الحوت"؛ فأورويل هنا هو مجرد مواطن بريطاني غيور على بلده وأبناء بلده، يستعمل ما بدر في عقله من عبارات للانتصار على مواطن روسي يشمت بالأدب البريطاني، وهذا ينبغي أن يكون واضحًا بكل سهولة لكل من يقرأ المقالتين ويقارن بينهما.
لكن، حين نختم الكتاب بكل ما فيه من مقالات نقدية وتافهة، ومن معلومات وأسماء شخصيات، وكتب ومذاهب وتواريخ وسياسات، وأحوال نفسية وتأملات فلسفية وأفكار مختلفة؛ سنندهش أن الكاتب كان لا يرى سوى نصف العالَم! إذْ إن أورويل يبدو عديم الاطّلاع تمامًا على كل ما كتبه المشارقة في الأدب والسياسة والفكر والفلسفة.
كان العالم الإسلامي في تلك الحقبة في أشد مراحل الانحطاط والتفكك، انهزامات متوالية للحاميات العثمانية، ثورات عربية فاشلة، تقسيمات أجنبية بالحديد والنار، اقتطاع أجزاء منه لصالح مليشيات قادمة من كل حدب وصوب، فمن أين يأتي الفكر والأدب والتفلسف من بين براثن هذا العالم المريض؟
ربما كان أورويل يفكر هكذا، غير أن هذا لم يكن سببًا لأن يغمض الكاتب البريطاني عينيه، متعاميًا عن الإنتاج الأدبي والفلسفي الإسلامي، الذي يمتد إلى قرون سابقة، ويتشابك بالمنتجات الفكرية والأدبية والفنية للشرق والغرب على حد سواء.
سوف يظل الأديب والمفكر مجرد نِصْفٍ غيرِ مكتمل ما لم يرَ العالَم أجمع، وهكذا كان جورج أورويل: نصف أديب عظيم!
أورويل كان يدور في حلقة ضيقة -وإن كانت مزدحمة- هي حلقة أوروبا، فالعالَم في نظر الأوروبي هو أوروبا فقط، وقد ناقشتُ هذا في مذكرتي الجامعية في نقد استشراق جاكلين الشابي من خلال كتابها "رب القبائل"، وشرحتُ كيف أن المواطن الأوروبي متمركز حول نفسه، ولا يدور إلا على ذاته، وأن الفتوحات الإسلامية الكبرى قد مثَّلت دهشة تاريخية في النفس الأوروبية، لم تُفِقْ منها أبدًا.
استطاع قلة من شخصيات الفكر والأدب والسياسة في القارة العجوز أن يتخلصوا من التمركز الأوروبي، واستفاقوا (غوته وفولتير على سبيل المثال)، أما البقية فعن عمد أو عن غير عمد ظلُّوا يحومون حول أنفسهم، حتى باتت كلمة "العالَم" أو "الدنيا" في أدبيات الأوروبيين، وفي حكايات عجائزهم في الليل، ترادف كلمة "أوروبا" ذاتها.
أورويل لم يكن استثناءً، وإن كان الواجب أن يكون كذلك، بحكم مكانته الأدبية أَوَّلًا، وبحكم سفره إلى الهند وإلى شمالي أفريقيا ثانيًا.. كان ذلك كافيًا أن يقرأ ما أنتجه النصف الثاني من العالَم، ولكنه بدل أن يقرأ للجاحظ والمعري وابن حزم وابن رشد والتوحيدي وابن تيمية، راح يؤدي دور ربة المنزل، ويصف للقارئ كيفية تحضير الشاي دون سُكَّر.
نعمْ، لقد كتب مقالة عن غاندي، ولكنها مقالة عن الحياة الشخصية للمهاتما وعن عاداته الغذائية، أكثر من كونها عن فكر غاندي وموارده ومصادره. أما حين كتب عن مراكش، فقد وصف بكل حزن عناء الحمير في تَحَمُّل أثقال الأهالي، الذين يحملون عليها ما يبتغون بيعه من حطب وخردوات، وبالأسلوب نفسه تحدث عن معاناة الفيلة في الهند.. لم يكن السكان الذين تعرضوا للاضطهاد من طرف الاحتلال البريطاني في الهند، وللاحتلال الفرنسي في شمالي أفريقيا؛ لم يكونوا بالأهمية نفسها التي كان يُوليها جورج أورويل للحمير والفِيَلة.
سوف يظل الأديب والمفكر مجرد نِصْفٍ غيرِ مكتمل ما لم يرَ العالَم أجمع، وهكذا كان جورج أورويل: نصف أديب عظيم!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.