في طريقي إلى الحافلة التي ستجمعنا في ساحة "إسكندر بك"، قلب العاصمة الألبانية تيرانا، كانت شمس يوم الحادي عشر من أكتوبر/ تشرين الأول تتوارى خلف الغيمات، وذهني ملبّد كما السماء بعقد من الخواطر؛ كيف سأتفاعل بعفوية مع أشخاص لا أعرفهم، وأنا متحفظة مع الغرباء دومًا، وكيف سيكون اللقاء بصحفي بارز مثل أسعد طه رسميًّا بالتأكيد؟! أتمنى أن يكون ودودًا دون جمود.
أُسكت تدافع وجهات النظر في عقلي، وأصعد إلى الحافلة.
في المخيم صرنا أقرب مما كنّا نظنّ، فلقد كان يشترك اثنان أو ثلاثة في الغرفة الواحدة، كلٌّ له مزاجه وسلوكه إما بالترتيب أو الفوضى، أما "مساحة الخصوصية" التي ظننا أننا سنفتقدها، فهي تحوّلت بسرعة إلى عنصر غير مرغوب به!
لقاء مع الغرباء
لم أكن أدري أنني على وشك اكتشاف عالمٍ أوسع من حدود الخيال، حين تقدمت بطلب انضمام إلى مخيّم "كيف تحكي الحكاية؟"، والذي يقيمه للمرّة السادسة الصحفي وصانع الأفلام، الأستاذ أسعد طه، لتعليم رواية الحكاية وصناعة الفيلم الوثائقي وكتابة المحتوى، حيث يختارُ في كلّ مرة "أماكن رمادية" كما يقول، لا يعرفها الناس كثيرًا، إما بسبب الحروب أو الأزمات، ولحسن الحظ وقع اختياره على دولة "ألبانيا" هذا الخريف.
في تيرانا وجدت نفسي مع أشخاص يتحدثون بلهجاتٍ مضحكٍ اختلافُها، لأكتشف أنهم يحملون أصولًا عربيّة من مصر، وسوريا، والعراق، والمغرب، واليمن، والأردن، والكويت، ويعيشون في مختلف أنحاء وقارّات العالم! هدأت فِكَري المتضاربة أمام أحاديث انسابت بسلاسة؛ تتنقّل بين التّاريخ والفلسفة والسّياسة والعلم، وتفصلها نكاتٌ توضّح الفرق الشّاسع بين لهجاتنا، كأن تقول لمغربيّ "يعطيك العافية"، فيردّ عليك: "النار تولع فيك"، لتكتشف أن العافية هي النار بالمغربية، فتعود بعدها الرجاءات الحارّة باستخدام الفصحى فقط!
الخصوصية مرفوضة
في المخيم صرنا أقرب مما كنّا نظنّ، فلقد كان يشترك اثنان أو ثلاثة في الغرفة الواحدة، كلٌّ له مزاجه وسلوكه إما بالترتيب أو الفوضى، أما "مساحة الخصوصية" التي ظننا أننا سنفتقدها، فهي تحوّلت بسرعة إلى عنصر غير مرغوب به!. فمثلًا، اتفقت رامية وداليا في الغرفة المجاورة لي على تبادل الملابس الصيفية والشتوية منذ اليوم الأول، وصارحَنا صديقنا تمّام من سوريا بأن آخر من حاول السيطرة عليه كان نظام الأسد، وفشل فشلًا ذريعًا في ذلك، لكن رفيقه أحمد في السكن فرض عليه حدودًا قاسية في تنظيم الغرفة، تقبَّلها دون أي نقاش!
الحقيقة أن كلًّا منا جاء إلى المخيم يحمل جبالًا من الحكايات التي تُثقله، ولم يجد أحنَّ عليه من مشاركتها مع رفيقه في الغرفة، أو جاره على مائدة الطعام، أو صديقه في المشي صباحًا، لأننا -كما تقولُ أمّي- نحتاج إلى شاهد على ما نمرّ به، من حزن وفرح وفشل ونجاح، نحتاج أن يذكر -ولو شخص واحد في العالم- أننا عشنا ما عشناه.
ندندن أغنياتنا في يوم طويل من المحاضرات والتحديات الصفية والميدانية، ما كان يجعلنا في حالة تأهب وتركيز طوال الوقت، حتى نصل بعد تعب إلى صوت أمّ كلثوم في الأمسيات
"عصفور طلّ من الشباك"
نبدأ صباحاتنا في السادسة على صوت الصافرة المعهود لأستاذ طه منسق المخيم، لا نمتلكُ ترف الكسل، فمائدة الإفطار تكون جاهزة في السابعة تمامًا، ويتعرض كل من يتأخر لنظرة تحقيقية من أستاذ أسعد، "الساعة كام يا أستازة؟"، وهو -كما دومًا- جالس في الكرسي المقابل للمدخل.
"عصفور طلّ من الشّباك" تُزين النقاشات الصباحية، والتي كنت أتابعها كلها وأنصت لها باستمتاع: "دخل عنا عالغرفة حشرات خضرا مبارح"، و"اللغة العربية هي السد المنيع في وجه الاستعمار"، و"شو يعني كلمة زلمة؟".
فسيفساء عربية
ندندن أغنياتنا في يوم طويل من المحاضرات والتحديات الصفية والميدانية، ما كان يجعلنا في حالة تأهب وتركيز طوال الوقت، حتى نصل بعد تعب إلى صوت أمّ كلثوم في الأمسيات، تجمعنا حول النار على مقاعد خشبية، لنحكي -أو "نحتشي" كما يقول الإخوة العراقيّون- قصصًا عنّا تُشبه عالمًا من الروايات؛ عن خيباتنا وأحزاننا، عن ثوراتٍ لها ربيع في القلب لا يُنسى، حمل أصحابها من بعدها الألم في المنفى ومرارة الفقد، عن بلادنا التي يعيشُ معظمنا خارجها؛ المغربيّ في فرنسا، والفلسطينيّ في الأردن، والسوري في تركيا، والمصري في بريطانيا، وغربة لا تنتهي.
تشاركنا البكاء أحيانًا، وفي كثير من الأوقات الضّحك، وبكلّ حب تعرّفنا إلى العائلات، بعضنا إلى بعض، وصرنا نبعث بسلامات وأشواق للأحفاد الصّغار وللأمهات الجميلات، حتى أدركنا جميعًا واعترفنا لبعضنا بوضوح الكلام، وحتّى بالنّظرات، أننا نقاسي الظّلم نفسه، ونحمل الأحلام ذاتها، وأن لقاء عربي على أرض الواقع لا يشبه أبدًا ما نقرؤه على مواقع التّواصل الاجتماعي من تخوين وحقد وشجارات لا تنتهي، بل هو اجتماعٌ يُشبه الفسيفساء في جماليته؛ لوحة من الفن كانت كاملة، كسّرها الزمن، لكنها أعادت ترميم نفسها بكلّ ألق.
جميعنا حاول التعبير عن امتنانه لأستاذ أسعد بطرق مختلفة، لكنها لم تكن كافية؛ لقد كان الشعور أكبر من الوصف، فنحن لم نتعلّم معه أسس الحكاية أو صناعة الفيلم الوثائقي فحسب، إنما حظينا بتجربة إنسانيّة نفسيّة عميقة
تفاصيل العائلة
أصبح بين كل أبناء المخيم نكات وألقاب صنعناها بعدما اكتشفنا تفاصيل مذهلة، بعضنا عن بعض؛ رامية وخوفها من القطّة السوداء والبيضاء، كوثر وضحكات ما بعد الثّامنة مساء، العنود تبحث عن حكايتها رفقة ثلاثة مترجمين، عثمان وكُتب الفلسفة، تمّام وكوب المتّة الذي يحمل حنظلة بوشاح الثورة السورية، أسماء وصدر المنسف الأردني، معاذ الذي لا يعرف المنسف أو الكنافة، من مصر إبراهيم الأوّل على صفّه والمتميز في الـ"BBC"، ومن سوريا إبراهيم "لسنا الأفضل لكننا الوحيدون"، ريّا وجملتها المعهودة: "صباح الحبّ"، داليا وقططها الثمانية الصغيرة، نجاة وصوتها في المسرحيّات، هيفاء "ماما" المخيّم، أسامة وكراهية السكّر، أحمد بتوقيعه الفنيّ، حمزة والنور، جمانة ورقّة الحديث، رشا الطفلة المعجزة، ابتسام وعلم الطاقة، فارس و"البريك" قبل الدراسة، طه والأطفال المزعجون.
أستاذ أسعد و"العصابة" كما يلقبها؛ أستاذ أحمد صاحب الصوت الوثائقي، والذي يدعي زميله أنه قد يكون قاتلًا متسلسلًا، وأستاذ محمّد الذي يبدو وكأنه شاهد كل فيلم وثائقي وسينمائي صنع في التاريخ، ويحاول الانقلاب على أستاذ أسعد بمداخلاته خلال الدرس.
الأب والمرشد
جميعنا حاول التعبير عن امتنانه لأستاذ أسعد بطرق مختلفة، لكنها لم تكن كافية؛ لقد كان الشعور أكبر من الوصف، فنحن لم نتعلّم معه أسس الحكاية أو صناعة الفيلم الوثائقي فحسب، إنما حظينا بتجربة إنسانيّة نفسيّة عميقة، وكان هو والدنا في هذا الطريق؛ يوجه ويرشد ويؤنّب أحيانًا، ولكنه يحنو ويشجع ويدفع بنا إلى الأمام دائمًا.
حين تحول مخيم الحكاية إلى عائلتي، في تسعة أيّام فقط، صار لدي من حياتي الصغيرة عالم من الأصدقاء، "أُوعكن تيجوا إسطنبول وما تقللولنا هه!"، "تعالي مصر وأنا أفسّحك"، "بنستناكم عنّا بالأردن أمانة تيجوا"!
الصباح الأخير
يوم التّاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، تجمّعنا عند الكوخ الرئيسي بانتظار الحافلة التي ستقل بعضنا إلى المطار، والبعض الآخر إلى تيرانا، نتبادل الوداعات بدفء حزين، ناولتني كوثر "ماسك" للبشرة عوضًا عن سهرة لم نملك وقتًا لها بسبب التعب، وعانقتُ العنود على صوتُ الأغنية وهي تقول: "بدّي سافر بدّي ضيع"، قبّلت يد أستاذ أسعد، وركبتُ في الحافلة، مبتعدة عن وجهه المبتسم، ومن خلفه القطط الصّغيرة تتراكض.
حين تحول مخيم الحكاية إلى عائلتي، في تسعة أيّام فقط، صار لدي من حياتي الصغيرة عالم من الأصدقاء، "أُوعكن تيجوا إسطنبول وما تقللولنا هه!"، "تعالي مصر وأنا أفسّحك"، "بنستناكم عنّا بالأردن أمانة تيجوا"! ما زلنا نطمئنّ على بعضنا كلّ صباح كما أبناء العائلة الواحدة في بلدان كثيرة، ونرسل أغنية "عصفور طلّ من الشّباك"، لنستمع معًا إلى نغمة حُريّتنا.. و"كلامنده".
"كلامنده" هو تعبير كنّا نظنّ أنه كلمة واحدة غريبة تُلازم حديث الأستاذ أسعد، حتى حققنا مع نجله فارس لنكتشف أنّها تعني: كلام من ده..
وصارت "كلامنده" مثلًا بين أبناء عائلة المخيم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.