في قطاع غزة، حيث الموت يحاصر الحياة من كل اتجاه، لا تزال الأمهات رمزًا للصمود في وجه حرب الإبادة التي لا تُفرق بين صغير أو كبير. فبينما يتناثر الدمار في كل زاوية، تقف الأمهات كالحصون الحية، يحاولن حماية أبنائهن من مصير مجهول تحت القصف المتواصل والعدوان المتكرر.
في ظل هذا الواقع، تضاف إلى معاناة هؤلاء الأمهات معاناة جديدة، وهي التمزق بين أطفالهن الرضع وأولئك المصابين، حيث يضطررن لمغادرة غزة برفقة أبنائهن الجرحى للعلاج في الخارج، بينما يُترك الصغار خلفهن في قلب الحرب.. تظهر هذه المعاناة بوضوح في قصص الأمهات، مثل أختي التوأم ريناد سامي ستوم، التي واجهت قرارًا صعبًا ومؤلمًا.
شارفت السنة على الانقضاء منذ أن غادرت ريناد غزة، ولم ترَ رضيعها حسام منذ ذلك الحين. خلال هذه الفترة العصيبة، حاولت جاهدةً أن تجد سبيلًا لإخراجه إليها، وناشدت الصليب الأحمر عدة مرات على أمل أن يساعد في لمّ شملها بابنها
خلال حرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال الصهيوني على غزة، قُصف منزلها في مخيم البريج وسط قطاع غزة في 16 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وأصيب ابنها أحمد البالغ من العمر عامين ونصف العام بشظية، اخترقت عينه اليمنى واستقرت في عينه اليسرى. كما أُصيب زوجها محمود العمصي في قدمه إصابة خطيرة، أدت لاحقًا إلى تدهور حالته الصحية، حيث كادت الإصابة أن تسبب غرغرينا بسبب نقص العلاج.
نظرًا لنقص الإمكانات الطبية في مستشفيات غزة المحاصرة، تحديدًا مستشفى شهداء الأقصى، التي تم علاجهما فيها، تم تحويل ابنها للعلاج في الخارج إلى دولة الإمارات، واضطرت أختي لمرافقته بنفسها بعد رفض السلطات السماح لحماتها بمرافقته.
كان هذا القرار يعني ترك رضيعها حسام ذي الأشهر السبعة في غزة دون أم، وسط ظروف الحرب والقصف، لتواجه التحدي الصعب بين رعاية ابنها الجريح، ومخاوفها على رضيعها الذي تركته خلفها. في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، غادرت أختي مع ابنها المصاب إلى الإمارات، بينما تم تحويل زوجها إلى مصر للعلاج بعد أسبوع، ليبقى حسام في غزة وحيدًا مع أهل والده، دون والديه.
لقد شارفت السنة على الانقضاء منذ أن غادرت ريناد غزة، ولم ترَ رضيعها حسام منذ ذلك الحين. خلال هذه الفترة العصيبة، حاولت جاهدةً أن تجد سبيلًا لإخراجه إليها، وناشدت الصليب الأحمر عدة مرات على أمل أن يساعد في لمّ شملها بابنها، لكن محاولاتها باءت بالفشل.
وفي خطوة يائسة، قررت دفع مبلغ 5000 دولار، وهو المبلغ المطلوب للتنسيق مع مصر لكل فرد يرغب في مغادرة غزة، بهدف تسهيل خروج ابنها.. إلا أن أملها في لمّ الشمل تحطم مرة أخرى عندما أُغلقت المعابر، ولم تتمكن من إخراجه من غزة. وهكذا، بقي حسام، الذي تجاوز عمره الآن عامًا ونصف العام، محرومًا من حضن أمه، التي ما زالت تعيش مرارة الانفصال والخوف المستمر على مصيره.
رغم أن شهد كانت تأمل أن ترافق والدتُها ابنتَها فاطمة خلال رحلة العلاج، فإن السلطات رفضت هذا الطلب، ما أجبرها على اتخاذ القرار الصعب بترك رضيعها في غزة تحت رعاية عائلتها، ومرافقة ابنتها في رحلة العلاج
كما هو الحال مع ريناد، شهد السرساوي أم فلسطينية، واجهت معاناة مؤلمة بعد نزوحها مع زوجها محمد جهاد مناصرة، وعائلتهما من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، في الساعات الأولى من الحرب. نظرًا لأنهم كانوا يعيشون على حدود الحي الأقرب إلى منطقة الخطر، لجؤوا إلى بيت أقاربهم في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة على أمل النجاة من القصف العنيف. ولكن، بعد شهرٍ من النزوح تم استهداف المنزل بثلاثة صواريخ من الطائرات الحربية الصهيونية، ما أسفر عن استشهاد جميع من في المنزل، بمن فيهم زوجها.
حدث هذا المصاب الجلل، لكنْ نجت شهد مع ابنها الرضيع ذي الأشهر الستة. بيد أن ابنتها الكبرى – فاطمة – ذات العامين، أُصيبت إصابة بليغة في يدها اليمنى، حيث تمزقت أوتار يدها بالكامل.. قرر الأطباء أن الحل الوحيد هو بتر اليد، نظرًا لصعوبة الشفاء وعدم توفر الإمكانات الطبية في المستشفى الذي كان يعجّ بالجرحى؛ لكن شهد رفضت فكرة بتر يد ابنتها بشكل قاطع، وكانت مصممة على الإبقاء عليها حتى لو كانت غير قادرة على القيام بوظائفها الطبيعية.
توسلت إلى الأطباء بحرقة ألا يقوموا بالبتر، وفضّلت أن تبقى يد ابنتها حتى وإن كانت مجرد منظر دون فائدة.. وبعد إصرار وجهود مضنية، تمكنت من تحويل ابنتها للعلاج في الإمارات. ورغم أن شهد كانت تأمل أن ترافق والدتُها ابنتَها فاطمة خلال رحلة العلاج، فإن السلطات رفضت هذا الطلب، ما أجبرها على اتخاذ القرار الصعب بترك رضيعها في غزة تحت رعاية عائلتها، ومرافقة ابنتها في رحلة العلاج.
في النهاية، تمكن الأطباء في الإمارات من ربط أوتار يد فاطمة ونجت من البتر. ومع ذلك، وجدت شهد نفسها ممزقة بين خوفها على ابنها الرضيع الذي بقي في غزة، وبين مسؤوليتها تجاه ابنتها المصابة، في مشهد يعكس قسوة الحرب وتحديات الأمومة في ظل ظروف الحرب القاسية.
كل أم في غزة تحمل في قلبها جرحين؛ جرح الخوف المستمر على أطفالها، وجرح الفراق الذي فرضته الحرب. هؤلاء الأمهات لم يخترن الفراق، بل أُجبرن على ترك أطفالهن في لحظات كان يجب أن يكنّ فيها بجانبهم
في ظل هذه الأوضاع المروعة، تقف أمهات غزة أمام تحديات تفوق الوصف، وقرارات لا يمكن لأي قلب أن يتحملها. فكيف يمكن لأم أن تختار بين طفلها المصاب الذي يحتاج إلى علاج في الخارج، ورضيعها الذي يبكي في أحضان الأقارب تحت القصف؟ هذا الواقع الذي فرضه الاحتلال الصهيوني على الأمهات هو أكبر من مجرد معاناة فردية؛ إنه قتل للإنسانية، وإهانة لكرامة الأمومة.
كل أم في غزة تحمل في قلبها جرحين؛ جرح الخوف المستمر على أطفالها، وجرح الفراق الذي فرضته الحرب. هؤلاء الأمهات لم يخترن الفراق، بل أُجبرن على ترك أطفالهن في لحظات كان يجب أن يكنّ فيها بجانبهم، يحضنّهم ويحمينهم، لكن بين أروقة المستشفيات وركام المنازل، تظل قلوبهن مرتبطة بأطفالهن الذين تركنهم خلفهن.
إنها ليست مجرد قصص لأفراد، بل هي صورة شاملة لمأساة شعب بأكمله.. وبينما يواصل العالم صمته، تظل هؤلاء الأمهات رمزًا للصمود والقوة. في معاناتهن، نجد أبلغ تعبير عن قسوة الحرب التي لا تفرق في القتل بين أم وأطفالها، وعن الإبادة التي لا تستثني أحدًا. وتظل غزة، بأمهاتها وأطفالها، شاهدة على وحشية الاحتلال، وصمود الإنسان الفلسطيني في وجه الظلم والإبادة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.