قرأتُ كثيرًا لمغتربين من النخبة المثقفة في وطننا العربي، وكانت أغلب نصوصهم تتحدث عن حاجة الإنسان للكتابة والتدوين خلال غربته، فمع اختلاف ملامح الاغتراب بينهم، كانت الكتابة رابطهم المشترك في نهاية المطاف، من أوروبا إلى آسيا، ومن آسيا إلى أميركا، وفي كل قُطر من الأرض وُجدوا فيه.
جعلني هذا الأمر أفكر في أحيان كثيرة.. لماذا يكتب المغترب؟ ما هي دوافعه ليمسك قلمًا، وينعزل عما حوله بورقة بيضاء؟!
اليوم جاءتني الإجابة، وأنا في المهجر أكتب لأول مرة، ليس بدافع الإبداع وإنما لحاجة أخرى لم أجد لها اسمًا بعد؛ فهي تشبه إلى حدٍّ ما محاولات لإبقاء نسخة مني كما هي دون تأثير خارجي من الوسط الجديد، في مجموعة أسطر وحبر أزرق أو أسود.. هكذا فقط، كأن يحاول الواحد منا التمسك بذاته وفِكَره الدافئة، شغفه الذي جاء به أول مرة من بلده، ونظرته لمن حوله، ومفهومه البريء عن الإنسان.
ويدرك المرء، سواء أكان مهاجرًا لمدة طويلة أم مغتربًا جديدًا، أن أول تغيُّر قريب يلحظه أمامه هو طبائع البشر المختلفة من حوله؛ الناس هنا ليسوا كالذين من حيث جئت، يلسعك برد خفيف في كل نظرة تتجه صوبك منهم، في المواصلات أو الأماكن العامة، وخصوصًا في دوائر الهجرة.
بعد استنفاد رصيدك من التواصل مع من تركتهم خلفك، يبدأ استفحال سمّ النسيان والاعتياد بينك وبين الأصدقاء والمقربين منك؛ فلا اتصالات مطولة مفصلة كالعادة، بل مجرد رسائل جافة من حين لآخر، واطمئنان عابر بأنك على قيد الحياة، وهذا الأمر طبيعي بين البشر
تجربة الغربة
بعد هذا، كنت أتساءل أيضًا عما يدور في خلد الإنسان في أول ليلة يقضيها في بلد غريب لا يمكن أن يكون وطنه، ولا يشبهه أيضًا.. حتى علمت بالتجربة أنه شعور لا مرتكز له ولا منطلق لنتمكن من وصفه بدقة كافية، بمعنى أنه ليس شعورًا بالحزن لتأتي بعده أحاسيس الألم والبكاء، وليس إحساسًا بالسعادة العارمة التي تجلب رفرفة القلب والبهجة المطلقة.
إنه بالكاد عاصفة تمرُّ بكيانك، وأينما استقرت فذلك هو شعورك الحقيقي، قد تستقرُّ عاصفتك على الدهشة أو الخوف أو غيرهما. ببساطة، إنك لن تتمكن من التحكم في هذا التناقض العجيب داخلك، وهذا هو تمامًا ما يدفع الكاتب ليكتب؛ في محاولة يائسة للاستقرار على عاطفة ما، لكنها عادة ما تغير شكلها في المساء، بعد أول مغيب تحمرُّ فيه سماء الغربة.
الغربة ومحاولات التعبير
وبعد استنفاد رصيدك من التواصل مع من تركتهم خلفك، يبدأ استفحال سمّ النسيان والاعتياد بينك وبين الأصدقاء والمقربين منك؛ فلا اتصالات مطولة مفصلة كالعادة، بل مجرد رسائل جافة من حين لآخر، واطمئنان عابر بأنك على قيد الحياة، وهذا الأمر طبيعي بين البشر.
ثم تأتي محاولات بائسة أخرى للبحث عن حوار يومي مع أحد الغرباء في المدينة الجديدة؛ قد يكون عربيًّا حاملًا لجنسيتك أحيانًا، أو مجرد عابر في طرقات الصباح، ولا يتسع الوقت ليتعرف أحدكما إلى الآخر، أو تعبّرا عن حنينكما للوطن، فهذا لا يهم هنا كثيرًا، بل لا قومية أو وطنية زائدة تجدي لتُظهر حب الوطن داخلك؛ لأن الأهم هنا هو معرفة الشعور وسط الفوضى، ومراجعة بعض الفِكَر المترسّبة منذ زمن في فرصة جادة للتمعن في مشاكل الهوية العربية، التي طالما اختلفنا فيها دومًا.. ونتجرع اليوم علقم ذلك.
على الأغلب، في الأخير لن يتمكن كاتب واحد من تلخيص تجارب كافة المغتربين مهما حاول، أو أن يختصر فِكَرهم المشتتة في مقولات فلسفية عصية على الفهم.. كيف ذلك وقد أصبح لكل مهاجرٍ حقٌّ كاملٌ في قول ما يريده بقلمه، وأن يتمرد كيف يشاء في وصف مكنوناته خلال تجربته، ويرى ضربه في الأرض بمنظوره الخاص، دون شرط أو قيد يجبره على تزيين حروفه أو تعديل سطر من سطور نصوصه، وإلا فلن نجد سردًا يلامس واقعنا كما يجب، ويتحول كل ذلك إلى زيف ووهم؟
بالتعرض للفِكَر التي نجدها في هذا المنهج النوراني، يفهم من غلبه روتينه الجديد أن قيمة الإنسان الأساسية تكمن في بناء داخله برتابة، والتمسك بنضج أخلاقي يوجهه إلى سبل الاندماج مع الآخر والإحسان إليه، مستحضرًا إحسان الخالق للإنسان بالدرجة الأولى في مقامات عديدة
حلول عملية في الغربة
محاولة متواضعة لوصف هذه الحالة، صاحبتها في ذهني محاولة أخرى لمعرفة: هل يوجد حل للغربة؟ أعتقد أن إجابة هذا السؤال ستكون بامتلاك آلة فِكَر جديدة لدى كل واحد يعيش هذه التجربة، ليعتمد عليها في إنتاج وقود يومي يجدد الطاقة، ويدفع بجمود حركة الأيام بعيدًا.
هذه الآلة هي مجموعة القيم الإنسانية التي رافقت النبي محمد – سر الخلائق – خلال هجرته من مسقط رأسه إلى مكان أبعد، يصير وطنه بعيدًا عن أذى العشيرة والمحيط السلبي، وهي قيم تحدد الأخلاق والتعاملات مع الغريب في بلده، ومع النفس التي تضعف قواها يومًا بعد يوم، وتصيبها شوائب حضارة وثقافة أخرى تزيد من ضياعها.
إن القراءة في الأنوار النبوية خلال هذا المنعطف الحساس من حياة الشباب القادم من بعيد، هي بمثابة فتيل النار الخافت الذي ينير العتمة من حولنا في المهجع الصغير، لكنها بالمقابل عُدة نفسية وروحية مقوية تكسبنا مناعة ضد تغول العالم الخارجي السالب لكل ما هو أخلاقي وثمين في جوهر الإنسان.
بالتعرض للفِكَر التي نجدها في هذا المنهج النوراني، يفهم من غلبه روتينه الجديد أن قيمة الإنسان الأساسية تكمن في بناء داخله برتابة، والتمسك بنضج أخلاقي يوجهه إلى سبل الاندماج مع الآخر والإحسان إليه، مستحضرًا إحسانَ الخالق للإنسان بالدرجة الأولى في مقامات عديدة، وجزاءَه إن هو أحسن لذاته وغيره، فـ {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، وأن يحمل روحًا صالحة متشبهًا بالنبي المصلح في غربته، كغيمة الغيث النازل التي حلت على المدينة، أينما جرى ماؤها نفع وأرشد، وصنع المجتمعات وقادها، وأمر بالمعروف قبل أن ينهى عن المنكر، مثلما وصف الكتاب الأعظم في آياته: {يؤمنون باللَّه واليوم الآخِر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصَّالحين}.
هكذا ربما، قد يجد الإنسان المغترب أول الطريق بالتمعن الصريح والطويل في مفاهيم ومعاني الهجرة، وإسقاط التجربة النبوية على أيامه للاستلهام منها أوقات المحن والسكينة، حتى إن جزءًا واحدًا منها قد يكفي لفترة طويلة من أجل معرفة الحلول لأتعاب شتى، تحاصر ضعف النفس البشرية الطبيعي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.