رغم أنّ برنامجه الانتخابي انصب على محاربة العنصرية والفساد، فإن التغيير الجذري الذي وعد به رئيس سريلانكا الجديد أنورا كومارا ديسايانكا لن يتوقف على الشأن الداخلي، وسيكون له ارتدادات إقليمية ودولية.
فالجزيرة الواقعة في المحيط الهندي، تعتبر برج مراقبة وتوجيه وإمداد لخطوط الملاحة البحرية الواصلة بين الشرق والغرب، وتزيد أهمية الجزيرة مع التغييرات المتسارعة في العالم، بدءًا من تداعيات طوفان الأقصى ومرورًا بصعود منظمة بريكس ومطبات عالمية منتظرة تقتضيها مراحل الانتقال من نظام قطب عالمي واحد إلى مستقبل مجهول.
يهدد نجاح اليسار بقيادة أنورا كومارا ديسايانكا في سريلانكا النفوذ الغربي والصهيوني، مع تحولات شعبية وسياسية تدعم العدالة وتناهض الهيمنة، فهل ينجو من رسائل النار الإسرائيلية؟
لا شك أن الفوز الساحق لتحالف "قوة الشعب الوطنية" في الانتخابات البرلمانية التي جرت الخميس 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 يوفر قوة دفع كبيرة للتغيير الداخلي الذي بدأ يؤتي نجاحاته بالفعل، عبر إعادة ترتيب البنية الاقتصادية والسياسية للبلاد.
وقد حصل هذا التحالف الحزبي اليساري على فوز ساحق بغالبية الثلثين في الانتخابات البرلمانية وذلك بعد أن أوصل الفلاح المكافح أنورا كومارا ديسايانكا إلى سدة الحكم، وينذر بانهيار منظومة نخبة فاسدة مرتبطة بالغرب.
لن تقف دول النفوذ كثيرًا عند الشأن الداخلي، سواء ما يتعلق بمحاسبة ساسة فاسدين، وإن كانوا حلفاء، بعد أن أصبحوا سابقين، أو تحسين الوضع الاقتصادي للمواطن الذي عانى من فسادهم، لكنها بالتأكيد سوف تسعى إلى إحباط أي تغيير داخلي يترك تداعياته على سياسات دول النفوذ الإقليمي والدولي داخل سريلانكا وخارجها.
وتشير كلّ التقديرات إلى أن الشعب السريلانكي يدعم التغيير الذي اختاره ديسايانكا وليس صندوق النقد الدولي، ومن هنا يُفهم تزامن التحذيرات الإسرائيلية والأميركية من هجمات "إرهابية" في سريلانكا، مع اقتراب الانتخابات البرلمانية.
وتذكّر التحذيرات الأخيرة بتحذيرات مماثلة سبقت هجمات الفصح التي استهدفت كنائس وفنادق فخمة عام 2019، وأدت إلى تغيير المشهد السياسي السريلانكي بإعادة عائلة راجابغسا إلى السلطة على أكتاف قوميين سنهاليين أو متطرفين بوذيين.
لقد كان عهد التطرف البوذي الذي سبق انتفاضة عام 2022 ذهبيًا بالنسبة للنفوذ الصهيوني في سريلانكا، إذ إن التاريخ السريلانكي لم يشهد احتفاء بإسرائيل كما حدث قبل هجمات الفصح، وذلك بفعاليات مستفزة للمشاعر الشعبية مثل مسيرات مؤيدة للاحتلال.
لكن حصاد التطرف كان علقمًا على الشعب، وبدأ بسطو المتطرفين الذين زعموا أنهم يمثلون الأغلبية السنهالية على الأقليات، لا سيما الأقلية المسلمة التي تشكل نحو 10 % من السكان الذين يقدر عددهم بنحو 22 مليونًا، وبلغ ذروته بإعلان إفلاس البلاد عام 2022، وعجزها عن الوفاء بمتطلبات حياة السكان الأساسية، لا سيما المواد المستوردة بالعملات الأجنبية، مثل: الوقود، والإخفاق في سداد الديون الخارجية المستحقة.
آخر الإنذارات بالنار هجوم استهدف مصانع الدفاعات الجوية التركية في 23 أكتوبر/تشرين الأول، وتزامن مع مشاركة تركيا في قمة مجموعة بريكس في قازان الروسية، وهي القمة التي حرص فيها الرئيس أردوغان على لقاء الرئيسين: الصيني، والروسي
يربط ساسة سريلانكيون التحذيرات الإسرائيلية الأميركية من هجمات إرهابية في بلادهم بتبنّي النظام الجديد سياسات رافضة للهيمنة، مثل: رفض التمييز العنصري، ومناهضة السياسات الاستعمارية الغربية، وتنسحب على نظام الفصل العنصري الصهيوني الذي يرى فيه كثير من القادة الجدد امتدادًا للاستعمار الاستيطاني الغربي، ويرافق السياسات الجديدة تضامن شعبي ورسمي متزايد مع القضية الفلسطينية، وربما يتبعها انحياز إلى قوى عالمية تنادي بتغيير النظام العالمي الجائر.
إنذار بالنار في عُمان
وتُذكر التحذيرات لسريلانكا عبر بيانات رسمية إسرائيلية وأميركية بتحذيرات عنيفة بالنار في مناطق أخرى من العالم تحاول التحول عن مواقفها التقليدية المتحفظة أو المتحالفة مع إسرائيل.
أوضح مثال على التحذير بالنار الهجوم على مسجد شيعي في العاصمة العُمانية مسقط، والذي نُسب إلى تنظيم الدولة، فالسلطنة التي دأبت على انتهاج سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الدولية والإقليمية، وجدت نفسها بعد طوفان الأقصى أمام تعاطف شعبي واسع لا يمكن كبحه.
تبنت عُمان، خلافًا لدول عربية مجاورة موقفًا صريحًا في رفض تصفية القضية الفلسطينية، وعززت من سياسات التضامن مع الحق الفلسطيني، وأعلنت على مختلف الصعد الرسمية رفض سياسات التهجير والتجويع والإبادة الجماعية، ودعم أي جهود تنهي الصراع بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولم تجرّم الضحية كما فعلت دول أخرى.
أما على المستوى الشعبي فأفضل من يعبر عنه مفتي السلطنة الشيخ أحمد الخليلي، حتى إن هناك من اعتبر الشيخ الخليلي بفقهه الواسع ومواقفه المبدئية خليفة للشيخ يوسف القرضاوي، ثم ظاهرة جيل من النشطاء ومحللين سياسيين لم تعرفها عمان من قبل، كلهم ينادون بصوت واحد: لا للسكوت على جرائم الاحتلال وإبادة الشعب الفلسطيني.
لم يلتفت العمانيون لهوية منفذ الهجمات، وأخذوا يتساءلون عن توقيتها وسياقها والمستفيد منها، وأخذ النقاش يدور حول تبعات الموقف الذي تتخذه السلطنة شعبيًا ورسميًا، وقدرتهم على تحمل تبعات موقفهم المبدئي في نصرة فلسطين.
تركيا وفلسطين وبريكس
آخر الإنذارات بالنار هجوم استهدف مصانع الدفاعات الجوية التركية في 23 أكتوبر/تشرين الأول، وتزامن مع مشاركة تركيا في قمة مجموعة بريكس في قازان الروسية، وهي القمة التي حرص فيها الرئيس أردوغان على لقاء الرئيسين: الصيني، والروسي.
ورغم أن طلب تركيا عضوية بريكس لا يمكن تصنيفه تخليًا عن حلف شمال الأطلسي، فإنها الوحيدة التي تجرأت على فعل ذلك من أعضائه، وهي تسعى لبناء قدرات تغنيها عن الاعتماد على الغرب مع استمرار تحالفها معه.
ربما يتحمل الاحتلال وقف شحنات "البندورة" إليه، لكنه لن يتسامح مع تغيير سياسات دولة محورية في غرب آسيا من حليف إلى محايد أو مناهض، ولن يتسامح مع ظهور قوة أخرى إلى جانب إيران تقول لإسرائيل لا
كما يتزامن الهجوم على مصانع الطائرات المسيرة التركية مع ما يمكن اعتباره تطورًا في سياسة تركيا تجاه الاحتلال الإسرائيلي، والذي بدأ يصنف سياسات التوسع الإسرائيلي تهديدًا لأمن تركيا، ولا تتوقف عند حدود القضية الفلسطينية.
بدت تركيا مترددة ومتحفظة في اتخاذ موقف عملي صارم تجاه حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، وتائهة بين المشاعر الشعبية الغاضبة، والتحالفات التاريخية مع الغرب، لكنها بدأت تشعر بلفح نيران إسرائيل مع تغييرها الحدودَ مع سوريا، وتصعيدها داخل أراضي إيران.
ربما يتحمل الاحتلال وقف شحنات "البندورة" إليه، لكنه لن يتسامح مع تغيير سياسات دولة محورية في غرب آسيا من حليف إلى محايد أو مناهض، ولن يتسامح مع ظهور قوة أخرى إلى جانب إيران تقول لإسرائيل لا، وذلك مع أنه لا يوجد بوادر تنسيق إيراني تركي تجاه حرب الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني.
أما شرق آسيا فكان التحذير واضحًا لماليزيا مع اعتقال إسرائيلي مسلح نهاية مارس/ آذار الماضي، وهو محميّ أميركيًا نظرًا لازدواجية الجنسية، ولم تكشف السلطات عن تفاصيل أكبر، سوى أن بحوزته 6 أنواع من الأسلحة، رشاشات أوتوماتيكية ومسدسات، و200 رصاصة، بينما سُربت أنباء عن اعتقال غربيين آخرين على صلة بقضية الإسرائيلي المسلح، وهو ما يوافق تهديدات لرئيس الوزراء أنور إبراهيم تلقاها في الأسابيع الأولى التي أعقبت معركة الطوفان، وقال أنور إبراهيم حينها إنها تهدف إلى ثني بلاده عن دعم النضال الفلسطيني من أجل الحرية وتقرير المصير والاتصال بقوى المقاومة الفلسطينية.
والسياق هو ذاته، تطور الموقف ضد جرائم إسرائيل على مختلف المستويات، ولم يتبقَ من أسطورة الردع الإسرائيلية لأصدقائها وأعدائها سوى الحرب النفسية، ولا فرق أن تكون ببيان تحذير أو رصاص تطلقه أيدٍ وكيلة أو مستأجرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.