سقراط أحد أهم فلاسفة الغرب، و"ربما كان الفيلسوف الوحيد الذي يعرفه الجميع"، ولا يزال اسمه لامعًا حتى اليوم، وهو يعطي ذلك الوهج المتألّق والهالة الفكرية الصلبة، التي خُلّدت بالثبات والموت من أجل المبدأ والإيمان به، ذلك المبدأ المثالي الذي يستقي الحكمة، ويثير الألباب وينير الخيال بالجمال.
وفي سبيل هذه القيم كان سقراط يتخذ لنفسه فلسفة السؤال في الرد على السؤال، وقد تَمثّل صدق هذه الفلسفة -عمليًا- فيما وصل إلينا من تفاصيل تصرفاته، وما واجهه من أحداث حتى في آخر مراحل حياته، ألا وهي فترة محاكمته.
ولد هذا الرجل عام 470 ق.م. في أثينا، هذه المدينة التي كانت تمثّل أعظم مدن العالم في ذلك الوقت. وهو بذلك أثيني المولد والنشأة كما تلميذه أفلاطون. ولقد "عاش حياته فيها ولم يغادرها إلا عندما طلب للخدمة العسكرية، فتشربت روحه بحب أثينا حتى آثر أن يموت فيها على أن يعيش غريبًا في أيّ أرض من أراضي البرابرة".
أثينا كانت أوان نشأة وصعود سقراط مستقرة، وفي فترة إعمار وازدهار، بعد سنوات من القتال والحروب والدمار، أي إن الأحوال السياسية في زمن نشأة سقراط كانت تقريبًا على ما يرام؛ حيث هزم الأثينيون جحافل البرابرة، واستطاعوا تحطيم القوات البرية والبحرية للملك الفارسي أحشويروش الأوّل، وتمكن الجيش الإسبارطي من أن يوقع الخسارة بالفرس، وبالتالي منعهم من التغلغل في الداخل اليوناني، واستطاع الأثينيون أيضًا استرجاع جزيرة ديلوس التي احتلها الفرس.
وفي هذه الفترة تم بناء الأكروبول، وفيه البارثينون وأماكن أخرى لا تزال موجودة في اليونان إلى يومنا هذا.. باختصار، كانت أثينا "في قمة عظمتها سياسيًا وثقافيًا"، كما يقول برتراند راسل.
بالإضافة إلى أنّ سقراط كان يعاني نوعًا من الفقر، فهو لم يكن يفكر بالغد. أي إنه لم يكن يريد بشكل من الأشكال أن يشغل عقله بالكيفية التي يمكن من خلالها أن يعيش مثل عامة الناس، بل غلب على فكره التأمل والنظر في ماهية الإنسان
والداه
وُلد سقراط لأبٍ يعتقد أنه كان نحاتًا، ويعرف بسوفرنيسكوس، ولكن بعض المؤرخين يستبعدون فرضية أن والده كان نحاتًا، لأنهم يقولون إن مصدر هذه الفرضية لا يمكن الاعتماد عليه، فهو كان ضمن محاورة من محاورات أفلاطون التي فيها شيء من السخرية والتهكم!
أما أمه فتدعى فينار (أو فينارت)، من قبيلة أنطيوشيد، وهي قابلة. ويبدو من أعمال أبوَي سقراط أنهما كانا يعانيان نوعًا من الفقر؛ لذلك فقد دخل الجيش، وتحديدًا في فرقة سلاح المشاة، وهذه الفرقة كان يدخل فيها الفقراء فقط؛ لأن سلاح الفرسان يتطلب حصانًا وتجهيزات لا يمكن للفقراء أن يشتروها.
وبالإضافة إلى أنّ سقراط كان يعاني نوعًا من الفقر، فهو لم يكن يفكر بالغد. أي إنه لم يكن يريد بشكل من الأشكال أن يشغل عقله بالكيفية التي يمكن من خلالها أن يعيش مثل عامة الناس، بل غلب على فكره التأمل والنظر في ماهية الإنسان، تاركًا الحياة تسير وتتموج في دوامة أخرى، مختارًا البحث عن الماهية، والبحث عن المعرفة والجمال، والتساؤل بشتى الأشكال.
زواجه
تزوّج سقراط امرأة جميلة وصغيرة السن تدعى أكزانتيب (زنتيب)، ويبدو أنه قد تزوجها أثناء الحرب البليوبنزية (وهذه الحرب قد حصلت بين أثينا وإسبارطة، وهُزم فيها الأثينيون، وأدت هذه الحرب إلى تخلخل الوضع في أثينا)، وكانت زوجة سقراط ثرثارة إلى حدّ الإزعاج، ولها مواقف مع سقراط، تدل على أنها كانت جاهلة.
من هنا أطلق حكيمنا صرخته المدوية: "يجب أن يتزوج الشاب على كل حال، فإذا رُزق زوجة حكيمة مخلصة غدا سعيدًا، وإذا منحته الأقدار زوجة شريرة مشاكسة أضحى فيلسوفًا!". وقال في موضع آخر: ابتليت بمصائب ثلاث؛ اللغة والفقر وزوجتي، أما الأولى فتغلبت عليها بالاجتهاد، وأما الثانية فقد تغلبت عليها بالاقتصاد، وأما الثالثة فلم أستطع التغلب عليها.
وقد وُلد لسقراط من زوجته هذه ثلاثة أولاد: لامبروكيس، وسوفرونيسكوس، ومينيكسينوس.
استبعد بعض المؤرخين صحة ما كتبه أكسينوفون؛ نظرًا لأنه ليس فيلسوفًا.. لكن، على جانب آخر رأى آخرون أن أكسينوفون هو الأوثق، لأنه محايد بدرجة أساسية، "خصوصًا أنّ سقراط قد تضخمت شخصيته تضخمًا زائدًا في المحاورات الأفلاطونية"
ما وصلنا من كتابات عنه
هذه هي الصورة الإجمالية التي يمكننا أن نعرفها عن سقراط، لكون المصادر التي ذكرت حياته قليلة ومتضاربة، وهي ثلاثة مصادر؛ أولها وأوثقها ما كتبه تلميذه أفلاطون في محاوراته، التي تمثل "المصدر المعول عليه بدرجة كبيرة في إظهار الجانب الفلسفي لسقراط". وإننا لو نظرنا إليه من خلال هذه المحاورات، فسنجده فيلسوفًا ميتافيزيقيًّا من أعلى مستوى كما يقول نيكلستون.
لكن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عدّ المحاورات الأفلاطونية تلفيقًا من أفلاطون، وأنه يجب ألا تنسب إلى سقراط بالضرورة، وهذا التلفيق يعود إلى شهرة سقراط عمومًا. وذكرَ الوردي عدة نقاط تبين دوافع هذا التلفيق في كتابه: "مهزلة العقل البشري".
ثاني المصادر ما كتبه عنه تلميذه الشاعر أكسينوفون، الذي لو اعتمدنا على كتاباته كالمأدبة والذكريات، فسنجد سقراط أشبه ما يكون بالمعلم الشعبي، أي ليس له علاقة بالمسائل الميتافيزيقية، بل له علاقة معينة بالأشخاص الطيبين والصالحين.
وللملاحظة فإن أكسينوفون يفتقر للاهتمام والقدرة الفلسفية. لذلك، فهو قد قام بتصوير سقراط بحيث يبدو عاديًا ومألوفًا، أي كشخص يعلّم الناس ما تعنيه أقوالهم، فهو رجل يبدو حكيمًا لكن لا شيء غريب فيه.
والمصدر الثالث هو ما كتبه أرسطو، تلميذ أفلاطون الذي استبعد أن تكون نظرية المثل له، بل نسبها لأستاذه أفلاطون، وصرّح أرسطو أن "سقراط لم يكن بعيدًا عن الميتافيزيقيا، ولكنه لم يكن يعلم الناس نظرية المثل".
ولكن استبعد بعض المؤرخين صحة ما كتبه أكسينوفون؛ نظرًا لأنه ليس فيلسوفًا.. لكن، على جانب آخر رأى آخرون أن أكسينوفون هو الأوثق، لأنه محايد بدرجة أساسية، "خصوصًا أنّ سقراط قد تضخمت شخصيته تضخمًا زائدًا في المحاورات الأفلاطونية". وبالتالي فقدت كثيرًا من صحتها وخصوصيتها لتُخلَطَ فيها فلسفة أفلاطون نفسه.
بعد أن رأى سقراط عدم التناسق والانسجام بين النظريات المختلفة للفلاسفة، غيَّر منحى تفكيره إلى البحث في العقل الإنساني، ليخطو خطوة هائلة غيّرت مسار الفلسفة إلى الأبد
بدايات الفكر السقراطي
كانت الفلسفة قبل سقراط تتخذ مسارًا طبيعيًا، وهذا المسار لا ينظر للإنسان وفكره وقضاياه، بل يركز على الاشتغال بظواهر العالم الخارجي. فمثلًا، كان اهتمام طاليس الملطي منصبًّا على الأرصاد الجوية والكيفية التي بدأ بها العالم، وهو صاحب فرضية نشوء العالم من الماء، أما أنكسميندر فقد عارض فرضية طاليس وافترض أن هناك شيئًا أعمق وأقدم أصلًا من الماء، هو مجهول بالنسبة لنا، وأطلق عليه اسم اللامحدود، وهو "تجمع لامحدود للمادة".
أما الفيلسوف الآخر فهو أناكسيمانس، الذي افترض أن الهواء هو أصل المادة، بل وقوام النفس! وبعده جاء الفيثاغورسيون، وعلى رأسهم مؤسس هذه المدرسة فيثاغورس من ساموس، الذي افترض أن الأشياء كلها أعداد، وأسس مع جماعته ما يشبه التقاليد والممارسات الصوفية التطهيرية.
هذه الفترة التي سبقت سقراط وازدهار الفلسفة في أثينا كانت تسمى "فترة ما قبل سقراط"، وهي تبحث في أصل الكون ونشأته وما يتخلله من ظواهر. ولكن مع قدوم سقراط حصلت نقلة في الفكر اليوناني، إذ تحولت الفلسفة من النظر الكوزمولوجي (أي البحث في الظواهر الكونية) إلى البحث في ماهية العقل الإنساني، وإثارة مشاعره وفكره، وحثه على التعقّل.
وللملاحظة، فإن سقراط كان كوزمولوجيًا في بداياته، حيث كان منتميًا لمدرسة "أرخيلوس"، وهذا هو الذي خلف الفيلسوف أناكساجوراس في أثنيا. وبالإضافة إلى انتمائه إلى هذه المدرسة، فقد كان يتخذ من ديوجينز الأبوليني وأنبادوقليس مصادر له في دراسته الكوزمولوجية. وبعد أن رأى سقراط عدم التناسق والانسجام بين النظريات المختلفة للفلاسفة، غيَّر منحى تفكيره إلى البحث في العقل الإنساني، ليخطو خطوة هائلة غيّرت مسار الفلسفة إلى الأبد.
لقد كان الفكر السقراطي فكرًا جديدًا ونيرًا، وأعتقد أن سقراط لم يكن مختلفًا في فكره هذا وحسب، بل وحتى في أفعاله اليومية وصحته وملبسه؛ إذ يُذكر أن سقراط "كان معتدلًا في كل ما يفعله، ولديه السيطرة على صحته".
وبالإضافة إلى ذلك فإنه كان حافي القدمين غير هياب وغير مهتم بملابسه، فقد كان يلبس ثوبًا واحدًا صيفًا وشتاءً، ورداؤه بالٍ قديم.. فقد كانت هناك ثورة داخلية، هي مصداق لثورة فكرية حركت كيانه، وغيّرت كوامن نفسه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.