إن ما يجري الآن على أرض فلسطين الأبية، ليس مجرد معارك في ساحات القتال، بل هو اختبار شامل لأبعاد متعددة تشمل السياسة، والنفس، والهوية، ومفهوم البطولة. وفي هذه القراءة التحليلية، سنغوص في عمق هذه الأبعاد التي شكّلت مشهدًا جديدًا للعالم، ووضعت البشرية أمام حقائق لم يعد بالإمكان تجاهلها:
صمود الشعب الفلسطيني ليس مجرد مواجهة للأهوال، بل هو شهادة حية على عمق الإيمان والقدرة الاستثنائية على التكيف مع الظروف القاسية
البعد السياسي: سقوط الأقنعة وانكشاف النفاق
إنك لو أردت أن تضع عنوانًا لهذا الطوفان المبارك فسيكون "الفاضحة"؛ ذلك أنه فضح هذه القوى الهشة التي زعمت لسنوات طوال أنها القوة التي لا تقهر، كما أسقطت ورقة التوت عن سوءات كثير ممن زعموا مناصرة الحقوق الإنسانية عامة أو القضية الفلسطينية خاصة، سواء على مستوى الحكومات العربية أو القوى العالمية، إذ لم يعد الموقف مقتصرًا على الصمت أو المجاملات السياسية؛ بل أضحت الحقائق واضحة لكل من يتابع، فلم يعد المواطن البسيط يحتاج إلى محلل سياسي ليدرك مدى الزيف الواقع في سياسات القوى الكبرى، فقد رأى بعينه العالم على حقيقته، بلا أقنعة أو مساحيق تجميل تخفي وحشيته.
البعد العسكري: معركة بين القيم والانضباط والفوضى والغطرسة
ظهرت المقاومة الفلسطينية كقوة عسكرية متماسكة، تعتمد على الانضباط والقيم الأخلاقية، وتتحرك بتوجيه الوحي لا تحت سيطرة الغرائز. لقد رأينا مقاتلًا صلبًا يواجه المحتل الإسرائيلي بعزيمة وشجاعة، بينما ظهرت نقاط الضعف الواضحة لدى الجيش الإسرائيلي، من حيث الغباء الإستراتيجي، والغطرسة التي دفعته إلى الفشل في احتواء المقاومة.
لقد شكلت المقاومة نموذجًا لقوة متوازنة، تتحرك بناءً على توجيهات وعي جماعي، فهي تتحرك بتوجيه من الوحي السماوي، لا بتأثير سيطرة الغرائز أو العواطف المفرطة؛ فلقد ظهر جليًّا للعيان أن الجيش الإسرائيلي يعاني من نقاط ضعف إستراتيجية كبيرة، تتمثل في الغباء الإستراتيجي والغطرسة.. هذه الغطرسة جعلت الجيش يعتمد بشكل مفرط على قوته العسكرية، متجاهلًا العوامل الإنسانية والنفسية التي تأخذ دورًا حاسمًا في النزاعات الحديثة.
أزاحت هذه الحرب غبار الغفلة عن المارد الإسلامي، الذي كان يغط في سبات عميق بعيدًا عن قضاياه الكبرى.. لقد شهدنا شعوبًا عربية تتفاعل بنشاط لم نشهده منذ عقود، حيث تعالت الأصوات مطالبة بالعودة إلى الهوية الحقيقية
البعد النفسي: ثبات الفلسطيني وهشاشة الإسرائيلي
تكشف الحرب عن مدى هشاشة الجندي الإسرائيلي، الذي يتفكك تحت وطأة الضغوط والخوف المتزايد. لقد أصبح هذا الجندي مرعوبًا من مواجهات المقاومة، إذ تسلل إلى قلبه ضعفٌ وجزعٌ لم يعد ينفعه فيه درعُه العسكري.
تبرز هنا الفجوة النفسية بينه وبين الثبات الانفعالي للفلسطيني، حيث يظهر انعدام الأمن الداخلي الذي يعاني منه الجندي، في حين تجسدت الروح العالية للشعب الفلسطيني الذي يواصل مقاومته، ثابتًا في وجه الموت والدمار.. إن صمود الشعب الفلسطيني ليس مجرد مواجهة للأهوال، بل هو شهادة حية على عمق الإيمان والقدرة الاستثنائية على التكيف مع الظروف القاسية.
إن الأبحاث التي تناولت نفسية الأطفال الفلسطينيين، مثل تلك التي أجرتها المنظمات الإنسانية والنفسية، أظهرت آثار العنف المستمر على نموهم النفسي والاجتماعي، وتشير الدراسات إلى أن الأطفال الفلسطينيين يعانون من مستويات مرتفعة من القلق والاكتئاب نتيجة للصدمات الناتجة عن الحروب والاحتلال، ولكن بالرغم من هذه المعاناة يُظهر هؤلاء الأطفال قوة نفسية ملحوظة، حيث يطورون آليات coping (التكيف)، تساعدهم على التعامل مع الظروف القاسية، ما يعزز لديهم شعورًا بالهوية والانتماء.
هم يتجاوزون المعاناة من خلال الإبداع في التعبير عن تجاربهم، سواء عبر الفن أو الكتابة، ما يشكل منفذًا لهم للتعامل مع الألم والفقدان.. هذا التفاعل النفسي المعقد يعكس قوة لا يمكن تجاهلها، متجاوزًا حدود المعاناة ليؤكد على صمود الإنسانية في مواجهة العنف.
ينبغي على الأطباء النفسيين دراسة نفسية الطفل الفلسطيني، ومن ثم إعادة النظر في الطرائق التربوية المتبعة في تربية الأطفال لدينا، فإنا نرى الطفل إذا سقط من على كرسيه قام يصيح، وليس به من شيء، ثم تنظر إلى الطفل الفلسطيني قد تهدّم البيت فوق رأسه، ثم إذا به يخرج معتدل الظهر يرفع علامة النصر، لهذا يجب أن نعيد النظر في المواد الدراسية التي تقدم إلى أطفالنا، لعلنا ننقذهم من آفة النعومة في أخلاقهم، والوهن في أعصابهم.
قضايا الهوية الإسلامية: صحوة المارد النائم
لقد أزاحت هذه الحرب غبار الغفلة عن المارد الإسلامي، الذي كان يغط في سبات عميق بعيدًا عن قضاياه الكبرى.. لقد شهدنا شعوبًا عربية تتفاعل بنشاط لم نشهده منذ عقود، حيث تعالت الأصوات مطالبة بالعودة إلى الهوية الحقيقية، وبدأ الناس يتساءلون عن مصدر المنتجات التي يستخدمونها يوميًّا، محاولين بذلك ربط حياتهم بالقضية التي تمسهم في الصميم. كما كشفت هذه الحرب بوضوح عن قدرة الشعوب العربية والإسلامية على التأثير في الرأي العام العالمي عندما تتوحد، وعن قوتها الكبيرة القادرة على تغيير مسار الأحداث.
لقد أعادت هذه الحرب ضبط بوصلة الهوية الإسلامية، ودعتنا إلى إعادة التفكير في موقعنا الحقيقي في العالم، مستنهضة الهمم نحو استعادة ذاتنا وهويتنا الأصيلة.
"السنوار"، يجسد ما تحتاجه المقاومة من رؤية إستراتيجية وحكمة لتحقيق أهدافها تحت قيادته.. لقد تحولت المقاومة إلى قوة متكاملة، تعمل بتنسيق وتنظيم عاليين، ما جعلها قادرة على مواجهة التحديات المتزايدة
البطل المفقود: البحث عن رمز البطولة
في خضم الأحداث الراهنة أعادت الحرب إحياء مفهوم البطل الحقيقي في الوعي العربي.. لقد أظهرت كيف أن العالم العربي يتعطش لنموذج البطولة المتمثل في قادة المقاومة، وعلى رأسهم "أبو عبيدة" و"يحيى السنوار". إن "أبو عبيدة" لا يمثل مجرد مقاتل في الميدان، بل هو تجسيد حي للإصرار والصمود، ورمز للأمل في التحرر والكرامة.
أما "السنوار"، فهو يجسد ما تحتاجه المقاومة من رؤية إستراتيجية وحكمة لتحقيق أهدافها تحت قيادته.. لقد تحولت المقاومة إلى قوة متكاملة، تعمل بتنسيق وتنظيم عاليين، ما جعلها قادرة على مواجهة التحديات المتزايدة. هذا الثنائي -"أبو عبيدة" و"السنوار"- يمثل رمزًا لمؤسسات المقاومة وللشعب الفلسطيني، ويجسد الأمل والطموح في تحقيق العدالة والحرية.
لقد عادت هذه الصورة البطولية إلى الواجهة، بعد أن غابت عن أذهان العرب لفترة طويلة!. أبو عبيدة ويحيى السنوار ليسا مجرد قائدين.. إنهما تجسيد لحلم الشعوب التي تسعى إلى التحرر، لتستعيد الأذهان معنى البطولة التي طالما غابت في زمن الفوضى. في كل مواجهة، نجد فيهما رمزًا للعزة والمقاومة، هما يعكسان إرادة لا تقهر، ما يدفع الشعوب إلى استعادة إيمانها بقضيتها وحقها في الحياة بكرامة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.