" كل بدعة بحاجة إلى من يدافع عنها، وقبل كل شيء أن يعطيها اسمًا تُعرف به".. هذه العبارة وجدتها في مقدمة دراسة تناولت الحديث عن البدعة التي أشار إليها الاقتباس السابق، وهي بدعة الرواية الرقمية أو ما يطلقون عليه "رواية الواقعية الرقمية".
وأقول ابتداء إنني لست من رافضي الإبداع والتجديد والتطور القائم على رؤية واضحة، المستند إلى معايير ونظريات تحاول ممارسة التجويد في المقتنيات الموجودة. وواهم من كان يظن أن الأدب والكتابة الإبداعية بمنأى عن محاولات التجريب الرقمي الذي يعصف بالعالم، وقد أصبحت برامج الذكاء الاصطناعي متغلغلة بشكل كبير في مجالات كثيرة من حياة البشر، حتى يكاد التعليم في عصرنا الحالي يوجَّه تمامًا لدراسة هذه المجالات، وتعلُّم فنونها وما يدار في مختبرات برمجتها.
لذلك، لا نستغرب إذا كان عدد الخريجين في تخصصات البرمجة وتقنياتها المختلفة في تزايد كبير.. وربما يأتي يوم يكسد فيه سوق الطب والهندسة كواجهة اجتماعية، ليصبح المبرمج ومهندس الذكاء الاصطناعي ممن يفسح لهم في صدارة النخب الاجتماعية.
وكي نفهم ما يدور حوله هذا المقال لا بد من تعريف محدد لمفهوم الرواية الرقمية، وقبل هذا وذاك لنعد كثيرًا إلى الوراء، حيث عصر ظهور فن الرواية كجنس أدبي مميز، وذي مقروئية تفوقت على مقروئية الشعر. فقد نشأت الرواية في أوروبا كما تقول كتب المنظرين، ثم خرجت من أوروبا لتكتسح العالم ولتعتلي عرش الانتشار، معتمدة على تقنيات وعناصر معيارية خاصة بهذا الجنس الأدبي.
اللغة العربية ليست مجالًا للمساومة أو المفاضلة، عندما يتعلق الأمر بلغة الإبداع العربي الموجه لمتلقٍ عربي، واللغة العربية لها خصوصية الهوية، التي يجتمع تحت لوائها كل ناطق بالضاد
لقد أنفق كتّاب وأدباء ومفكرون سنوات طويلة من حياتهم وهم يحاولون تقديم نموذج عالٍ ومتفوق من الأعمال الروائية التي تؤثر في المتلقي وتهز وعيه، وتثير فيه الأسئلة الكبرى التي تتعلق بحقيقة وجوده ومآله.
ذلك الجهد أنتج أدبًا عالميًا سمي بالكلاسيكيات الأدبية، وهي التي حاولت تقديم صورة إنسانية تنسحب على الوعي الإنساني المشترك بين سكان هذه البسيطة؛ فكانت رواية "مئة عام على العزلة" لماركيز، و"مدام بوفاري" لفلوبير، و"البؤساء" لفيكتور هوغو، و"الحرب والسلم" و"الجريمة والعقاب" للروسيين تولستوي ودوستويفسكي.
وعندما ظهرت الرواية العربية التي حاولت تتبع خطى جارتها الغربية، كان لا بد من المحافظة على التقنيات والمعايير والقواعد المستوردة للمنتج الجديد، إلى جانب تحويره قليلًا ليصطبغ بصبغة خصوصية الفكر العربي والإسلامي.
وإذا كانت الرواية الغربية وصلتنا مترجمة، واعتمد فهمنا لها على فهم مترجمها وثقافته وعبقريته في الترجمة، فإن الرواية العربية تمتلك السمة الأصيلة التي توحد خصائص المنتج الروائي العربي وهو اللغة.
لقد ظلت اللغة العربية هي الخيط الجامع لفكرة الإبداع والتفنن في كتابة الرواية العربية؛ فالرواية أولًا وثانيًا وآخرًا هي لغة، والتفنن في استخدام اللغة وتطويعها، وتشكيل جملة خارجة عن المألوف والمتوقع، وبناء صور وأخيلة مبتكرة، والدخول في مراوغة لذيذة مع علوم اللغة من بلاغة ونحو وصرف ودلالة.. هو الذي يميز كاتبًا عن كاتب، ورواية عن أخرى.
فالرواية إذن لا يمكن أن تعتمد على بناء الصور والأخيلة إلا بامتلاك الكاتب عنصر اللغة، واللغة العربية لها خصوصية، وعلينا أن نُبقي هذه الخصوصية، ولا نحاول طمسها أو تخطيها تحت أي وهج حداثي أو تكنولوجي؛ فاللغة العربية ليست مجالًا للمساومة أو المفاضلة، عندما يتعلق الأمر بلغة الإبداع العربي الموجه لمتلقٍ عربي، واللغة العربية لها خصوصية الهوية، التي يجتمع تحت لوائها كل ناطق بالضاد.
والسؤال الذي أود طرحه بتجرد كامل: ما موقع اللغة العربية في وجدان منظّري الرواية الرقمية؟. وهذا سؤال استفساري استعلامي للوصول إلى معرفة صحيحة، نستطيع أن نبني عليها حواراتنا في موضوع الأدب الرقمي، الذي أحاول الاقتراب منه عبر هذه السطور.
ما يحاول الروائيون الرقميون الجدد قوله يتمحور في كون الرواية الرقمية أصبحت ضرورة ملحة في عصر التسارع الإلكتروني؛ وأنها مع الوقت ستصبح بديلة عن الرواية الورقية التي ينعتونها بأنها تقليدية وسلفية
فما دام منظروه ورواده قد أطلقوا عليه اسم "الأدب"، ونعتوه بصفة الأدبية، يحق لنا أن ننظر إليه من معايير الأدب الأصيلة التي تميز بين النصوص. فهل يصح أن نعتبر ما يروّج له أصحاب الفكرة الرقمية من نتاجات إلكترونية تعتمد على البرمجة الحاسوبية والسيرفرات والوسائط المتعددة والروابط والمواقع الإلكترونية.. هل يصح اعتباره أدبًا؟
وهل وصفه بالأدب صحيح من الأساس؟ ألا يحيلنا واقع ما يسمونه بالرواية الرقمية إلى ألعاب الديجيتال والألعاب الإلكترونية المختلفة، التي قد يتخذ بعضها صورة قصة أو حكاية مثل حكايات البوكيمون وغيرها؟
لست أعارض هذا التطور إذا كان ذا نفعية فكرية ومعرفية، ولكنني أحاول التفكير بصوت مرتفع، ومشاركة القارئ في هذا التساؤل المستحق عن صحة نسبة الأدب إلى الرقمنة، ناهيك عن نسبة الرواية تحديدًا إليها.
إن ما يحاول الروائيون الرقميون الجدد قوله يتمحور في كون الرواية الرقمية أصبحت ضرورة ملحة في عصر التسارع الإلكتروني؛ وأنها مع الوقت ستصبح بديلة عن الرواية الورقية التي ينعتونها بأنها تقليدية وسلفية. وإطلاق صفة التقليدية هنا يبدو كتهمة للرواية الورقية، المستندة إلى معايير وتقنيات وأساليب سرد، وزمان ومكان وشخوص وفضاءات نصية، تهمة تذكرنا بما طالب به الحداثيون عندما حاولوا تمييع الأجناس الأدبية، والتخلي عن كثير من خصوصية اللغة والبيئة العربية، لصالح فكرة التطور والارتقاء ومواكبة الركب الجديد.
هل الرواية الرقمية مرفوضة بناء على ما تقدم؟ بالتأكيد، ليس الهدف من هذا المقال رفض هذه البدعة الجديدة، ولا التقليل من أهمية مواكبة تطورات العصر المتسارعة، ولكنها محاولة لمناقشة الأمر وتسليط الضوء على تساؤلات هامة، نحتاج إلى التفكير فيها قبل أن نشرع أبواب القبول والتسليم التام بما يذهب إليه الرقميون .
التعليم مجال شديد الحساسية، خاصة تعليم جيل الأطفال واليافعين، الذين هم في بداية تفتحهم على تعلم اللغة وفهم علاقاتها ودلالاتها. ولا ننكر أن إدخال التقنية الحديثة في التعليم أمر بالغ الأهمية، وله أثر كبير في صقل خبرات الجيل وتوسيع مداركه
وقبل أن أسترسل في فكري حاولت الوصول إلى نموذج روائي رقمي لأطلع عليه وأكتشفه من قرب؛ ولكنني وجدت النماذج الموجودة قد تعرضت للقرصنة، أو لتعطل السيرفر الذي تعمل عليه. وهذا أوّل المؤشرات التي تكفينا عناء السؤال: هل يمكن للرواية الرقمية أن تكون بديلًا حقيقيًا عن الرواية الورقية، وهي عرضة لكل ما يعترض عالم الآلة والحواسب من أعطال وتغيرات.
أما السؤال الثاني، والذي أراه مهمًا جدًا، وهو ما يعنيني في هذا المقال: ما موقع اللغة – العنصر الأساسي في عملية صنع الإبداع – من رقمنة الرواية؟ وهل سيتم تحييد اللغة كعنصر هام في الإبداع لصالح تقنيات الحوسبة والذكاء المصطنع؟
نعم، لقد جرب العالم الاعتماد على الأجهزة والمواقع الإلكترونية في فترة انتشار فيروس كورونا، وكان التعامل الإلكتروني مريحًا من عناء كثير من الأعمال الورقية المكتبية، وسهّل عمل كثير من الشركات والمؤسسات بشكل إيجابي.. ولكن، هل التعليم جزء من تلك الإيجابية؟
لا يمكنني الجزم بـ"لا" أو "نعم"؛ فالتعليم مجال شديد الحساسية، خاصة تعليم جيل الأطفال واليافعين، الذين هم في بداية تفتحهم على تعلم اللغة وفهم علاقاتها ودلالاتها. ولا ننكر أن إدخال التقنية الحديثة في التعليم أمر بالغ الأهمية، وله أثر كبير في صقل خبرات الجيل وتوسيع مداركه، ولكن الاعتماد بالكلية عليه سيضر ضررًا بالغًا باللغة العربية، التي تحتاج تعلم فنونها الأربعة من قراءة وكتابة وتحدث واستماع.
وإذا أسقطنا هذا على المجال الروائي والإبداعي، فإن استخدام الرقمنة في إنتاج حكايات وقصص تعتمد على ما تقدمه البرمجيات أمر جيد، إذا استُغل بطريقة نافعة وموجهة للخيال؛ فالرواية ليست خيالًا فقط.. هناك عناصر كثيرة عليها أن تتضافر وتتوفر ليصحّ إطلاق اسم رواية على المنتج الكتابي، وكثير من هذه العناصر لا تستطيع الرقمنة توفيرها على وجهها الصحيح؛ لأنها مرتبطة بحالات الشعور الإنساني والتعاطي البشري النفسي والسلوكي، وهو ما لا تستطيع الأجهزة الإحاطة به مهما بلغت درجة ذكائها الاصطناعي.
إذا كنا سنقول نعم للرواية الرقمية، فهي "نعم" مشروطة بحقيقة كونها برنامجًا إلكترونيًا جميلًا ومتطورًا، يقدم مستوًى تقنيًا حديثًا لسرد حكاية ما، عبر صور ووسائط صوتية وفيلمية وألوان وإضاءات مبهرة، قد نتسلى بها قليلًا ونتفاعل مع ما تقدمه من روابط تحيلنا إلى صورة ما أو مشهد ما
واللافت للنظر الدعوة المستعجلة للتخلي عن تاريخ طويل من الإبداع الكتابي الورقي، والتحول عنه إلى مجموعة من التطبيقات والبرامج التي يوفرها الحاسوب وشبكته العنكبوتية الذكية، بحجة أن الرواية بشكلها التقليدي صارت من مخلفات الزمن القديم عند بعض المتحمسين للرقمنة الأدبية!. فهل علينا دائمًا أن نتخلى عن مقتنياتنا الثقافية وإرثنا الطويل لصالح أي مستجد طارئ؟
وما أميل إليه أن الرواية الرقمية هي شكل مطور من البرامج الإلكترونية، فيه درجة عالية من الإمتاع والتسلية والنفع إذا تبنت المحتوى النافع، وهي في حِلٍّ تمامًا من أي محاولة لليِّ عنق التعريفات والنظريات التي تطرحها كبديل حديث متطور ومبتكر للرواية التقليدية؛ التي لها جمهورها الكبير والمنافحون عنها، والذين يهربون إليها غالبًا كلما ضاقت نفوسهم وتعبت أبصارهم من شاشات الأجهزة، التي سلبت كثيرًا من عافيتهم واستقرار نفوسهم.
فإذا كنا سنقول نعم للرواية الرقمية، فهي "نعم" مشروطة بحقيقة كونها برنامجًا إلكترونيًا جميلًا ومتطورًا، يقدم مستوى تقنيًا حديثًا لسرد حكاية ما، عبر صور ووسائط صوتية وفيلمية وألوان وإضاءات مبهرة، قد نتسلى بها قليلًا ونتفاعل مع ما تقدمه من روابط تحيلنا إلى صورة ما أو مشهد ما، كما فعل أحمد عبد اللطيف في تصميمه لحكاية "حصن التراب"، حيث وظف التقنية في عرضِ الموشحات الأندلسية، وصورٍ تمثل البيئة الأندلسية التي تتحدث عنها القصة.. ثم ماذا؟. نغلق الجهاز ونعود لنكمل روايتنا التقليدية الورقية، التي تحرك الوجدان، وتنعش الفكر، وتثير الأحاسيس، وتريح النظر.
والسؤال الذي أشارك القارئ فيه: ما مدى حرية الراوي الرقمي في عالم البرمجيات الخاضع لسيطرة الشركات الغربية، التي يدعم معظمها المحتوى المعادي للقضايا العربية والإسلامية؟ وهل يمكن – مثلًا – أن نصمم رواية رقمية بمحتوى فلسطيني، أو بأبطال من محيطنا العربي المتأزم بالحروب والموت؟ وهل يمكن لمصمم الرواية الرقمية أن يصمم حكاية رقمية، بطلها طفل من غزة، يقص علينا كيف طارت قدمه في الفضاء بفعل قذيفة غازية؟.
مجرد تساؤلات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.