يُفزعني حجم المأساة الإنسانية في قطاع غزة، ويفزعني أكثر حجم اليأس الذي دبَّ في نفس الناشط العربي، وأرهق صوته وأطفأ وهج حماسه القومي، الذي كان قد أعاد بعثه طوفان الأقصى بعد طول سُبات.
أذكر حجم التفاعل العربي الهادر مع حدث طوفان الأقصى في أيامه الأولى واحتفائهم به بزخمٍ عالٍ، واتفاق الشعوب العربية والتفافها – بمختلف أقطارها وانتماءاتها وأيديولوجياتها – حول قضيتها المركزية بذلك الشكل للمرة الأولى.
تعودنا.. حاولت كثيرًا أن أتجاوز مُرَّ هذه الحقيقة، وأخلق قراءات أقل مرارة لفتورنا في الالتفاف حول قضيتنا الأولى، والتمسك بتلابيب أحقيتها، لكني فشلت أمام وضوح واقعنا!
من نواكشوط إلى مسقط، في كل حي ودهليز وشارع، أينما وليت وجهك وأخذتك الطريق حينها، تسمع بوضوح تغطيات قناة الجزيرة وأصوات مذيعيها في كل منزلٍ ومحل وكشك.. الجميع محتشد أمام شاشات الأخبار، يحملون غزة في قلوبهم، وقلوبهم على أكفهم المرفوعة إلى السماء، يتابعون تداعيات الطوفان الكبير لحظة بلحظة.
مع بدء التوغل البري لجيش الاحتلال الإسرائيلي داخل قطاع غزة، واشتغال آلة القتل الإسرائيلية بوتيرة متسارعة وشكل همجي، كنا نتابع ونعد أرقام الضحايا – حين كانت بالعشرات – أولًا بأول، ونعيش المأساة الغزية من خلف الشاشات بقلق وغضب كبيرين، في مشهدِ انتماءٍ لقضيتنا المركزية مهيبٍ، ولكأننا – بتلك المشاعر – وسط الميدان نحمي ظهور المقاومين.
اليوم، وبعد مرور أزيد من عام، والشهداء يقتربون من 50 ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال، في واحدة من أكبر عمليات الإبادة وأكثرها وحشية في عصرنا الحديث، أقف متسائلًا: أين راحت كل تلك المشاعر؟ بل كيف تلاشى طوفان حميتنا؟ وكيف نجحنا في التعايش مع عداد الموت وقد صار رقمًا مهولًا؟
تعودنا.. حاولت كثيرًا أن أتجاوز مُرَّ هذه الحقيقة، وأخلق قراءات أقل مرارة لفتورنا في الالتفاف حول قضيتنا الأولى، والتمسك بتلابيب أحقيتها، لكني فشلت أمام وضوح واقعنا!. لقد أصابتنا لعنة التعوُّد، ويا لها من لعنة!
لا يتوقف خطر فكرة التعود على خذلاننا للفلسطينيين، وتململنا عن نصرة قضيتنا الكبرى فحسب، ذلك أن التعود على وجود المأساة أعظم خطرًا من المأساة نفسها، هو تهديد حقيقي لإنسانيتنا، لفطرتنا، لنزعتنا في مجابهة الظلم ورفضه والتنديد به.. هذا النوع من التعود هو عملية تأصيل للشرور في دواخلنا.. إننا نغذي نزعة الشر فينا، نتحول إلى جلادين من حيث لا ندرك.
إننا نعيش اليوم نوعَيْن مختلفَيْن من الإبادة، أولهما إبادة بشرية وحشية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، ويمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والآخر إبادة خطيرة تتعرض لها ضمائرنا وإنسانيتنا
يحضر في بالي الآن هذا المقطع من رواية "من وراء القضبان" لكارل تشيسمان: "اكتشف هو وزملاؤه في هذا القطاع آلاف الجثث اليابانية التي كانت ممزقة ومتحللة؛ وكان النتَن الهائل المتصاعد منها يمنع هؤلاء الرجال من الراحة والنوم والأكل. بعد ذلك ألِف الرجال ذلك، وصاروا يستخدمون رؤوس اليابانيين بعد معالجتها، بحيث يكشفون الجمجمة الملساء الملتمعة، يستخدمونها زينةً لمكاتبهم".
كان الأمر فظيعًا عند النظرة الأولى، حين رأوا الجثث الممزقة أمامهم، قبل أن تتغشاهم لعنة التعود، وتقضي على إحساسهم بفظاعة المشهد ومأساويته، لينتهي بهم الأمر طرفًا مشاركًا في الجريمة من خلال تلاعبهم بالجثث والتزيُّن بها! هذا ما أعنيه بلعنة التعود.
هذا تمامًا ما يحصل معنا اليوم، فنحن – وبشكلٍ باعث على القلق والحسرة – تعايشنا مع الأرقام الكبيرة القادمة من غزة لسقوط الشهداء والجرحى. وإن أبشع ما في الأمر، بحسب مقولة دوستويفسكي، هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز أنفسنا. وفي حقيقة الأمر فإن هذا التعود على الشر، هو ما ينبغي أن نخشاه ونحزن له.
يمكننا إذن تلخيص المشهد بالقول إننا نعيش اليوم نوعَيْن مختلفَيْن من الإبادة، أولهما إبادة بشرية وحشية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، ويمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والآخر إبادة خطيرة تتعرض لها ضمائرنا وإنسانيتنا، ويمارسها تعودنا وتعايشنا مع الإبادة الأولى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.