يطوف هذا السؤال في ذهن المرء وهو يرى ويسمع عن رقعة العلم المتراحبة يومًا إثر يوم، وسلطانه المبسوط في ظاهر الأرض وباطنها، شرقها وغربها، حتى إذا ضاقت به الأرض عرج إلى السماوات، فوقف على أسرارها، واطّلع على مكنونها ما شاء له الله أن يطلع.
للعلم تعريفات عديدة، لعل من أدقها وأشهرها "إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل"، فكل مفهوم في الذهن تطابق مع الواقع الذي في الخارج، فهو علم صحيح. وهنا يتداخل مدلول العلم والمعرفة، على ما بينهما من فروق في الألفاظ والمعاني، نصّ عليها علماء اللغة.
العلم مع كل ما وصل إليه من تقدم باهر، وإنجاز مدهش، لا يزال مقصّرًا عن الغاية، بعيدًا عن مدارك العلوم والمعارف المبثوثة في هذا الكون الفسيح
ويجدر أن أنبّه إلى أن مدلول كلمة "العلم" – ولقرون طويلة خلت – كان يشير إلى كل ما أماط اللثام عن الحقيقة، وأبان عن الواقع كما هو، سواء تم هذا عن طريق الحس والتجربة، أو الاستدلال العقلي بأقسامه: (دلالة الالتزام والقياس)، أو عبر الخبر الصادق.
فكل ما استطاع العقلُ أن يصل إلى يقين بشأنه (سواء أكان من الماضي أو الحاضر، خاضعًا للحواس أم مستعصيًا عليها) فهو داخل تحت مظلة العلم، شريطة أن يتم الوصول إلى هذا اليقين من خلال المنهج العقلي المناسب له.
وبقيت كلمة العلم تنعم بهذه السعة والفسحة في المدلول حتى عصر النهضة (سلسلة من الحركات الأدبية والثقافية في أوروبا في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر) الذي حجَّم مدلوله، وضيق أفقه، وحصره في طريق واحدة، ألا وهي طريق التجربة والحس والمشاهدة. وعلى أية حال، أقصد بالعلم هنا العلوم التجريبية من طب وفيزياء وكيمياء وفلك.. إلخ
والآن أعيد السؤال بصيغة معدلة: هل يستطيع العلم التجريبي تفسير كل شيء؟ الجواب: لا.. إن العلم مع كل ما وصل إليه من تقدم باهر، وإنجاز مدهش، لا يزال مقصّرًا عن الغاية، بعيدًا عن مدارك العلوم والمعارف المبثوثة في هذا الكون الفسيح. قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ينبغي أن نعلم أن العقل، الذي به علِمنا وعرَفنا ودرَسْنا وحلَّلنا واختبرنا وفحصنا ومحَّصنا.. قد جعل الله له حدًا ينتهي إليه، وغاية يقف عندها، فلا يستطيع أحد أن يدرك به كل مطلوب يسعى إليه! وهذا مما لا ينازع فيه عاقل.. وكما أن الحواس محدودة القدرات، مقيدة الطاقات، فكذلك العقل؛ له حد ينتهي إليه. يقول الإمام الغزالي: "ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقلِ طورٌ آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل".
اتبعاني فإنَّ فيَّ نورًا من نور الخالق تبارك وتعالى يهديني السبيل، ويدلني على الطريق، ويزودني بمعرفةٍ محجبة عنكما، ولا سبيل إليها إلا عن طريقي
يفسر الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في كتابه "صراع مع الملاحدة"، عبارة الغزالي بقوله: "إن ما وراء العقل قد يكون بعيدًا عن تصور العقل وتوهّمه بُعدًا بالغ النهاية، لأن العقل محجوب عنه في حدوده التي لا يستطيع أن يتعداها. لكنه لا يمكن أن يكون وراء العقل أشياء يحكم العقل حكمًا قاطعًا باستحالتها، فهناك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل، فهو لا يتناوله بنفي ولا إثبات، لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وبين ما يحكم العقل حكمًا قاطعًا بنفيه أو إثباته".
إذن، هناك أمور وقضايا وأسئلة لا يستطيع العقل ولا العلم أن يخبرانا عنها شيئًا، مثل الحديث عن ماهية الروح، والجنة، والنار، والدار الآخرة، والملائكة، والجن؛ وكذلك المُعجِزة، لا يجد العلم لها تفسيرًا أو شرحًا تطمئن معه النفس، ويسكن إليه القلب؛ وكذلك الفضائل والجمال والسعادة وما إليها؛ ومثل ذلك لا يستطيع العلم أو العقل أن يجيبا عن الأسئلة الكبرى في حياتنا، وهي: ما الغاية من خَلقي؟ ما مهمتي في هذا الكون؟ وإلى أين المستقر بعد الموت؟
أمام هذه الحقائق كافة تعجز أماني العلم، وتنقطع آمال العقل؛ لأنها ليست من الأمور التي يتناولها بأحكامه، أو تنطوي تحت عباءته. وهنا يأتي دور الدين الصحيح الذي لم تعبث فيه أيدي العابثين، فيجيب عما أقرَّ فيه أخواه بالمُعْجزة، ويقول لهما: اتبعاني فإنَّ فيَّ نورًا من نور الخالق تبارك وتعالى يهديني السبيل، ويدلني على الطريق، ويزودني بمعرفةٍ محجبة عنكما، ولا سبيل إليها إلا عن طريقي.
وإن موقف العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية من هذه المغيبات يتلخص في الآتي:
- تحرير صدق الخبر وصحة دلالته.
- رفض ما لم يثبت صدقه ضمن قواعد تحرير صدق الأخبار.
- رفض ما خالف أحكام العقل القاطعة، وهو ما يدخل في قسم المستحيلات العقلية، كالجمع بين النقيضين، وكوجود شريك لله تعالى.
العلم وحده عاجز عن تفسير كل شيء، وتعليل كل أمر، ولا بد له إذا رام الكشفَ عن طوايا الحقائق المحجبة من أن يستنير بالنور الهادي، ألا وهو الدين، وهو – إن شئت الدقة – الإسلام
وهذا هو ما يسمى منهج "تحرير صدق الخبر وتمحيصه"، أو "قواعد علم الرواية"، الذي وضع أسسه وحرر أصوله العلماء المسلمون في ثلاثة فنون من الكتب: فن مصطلح الحديث، وفن الجرح والتعديل، وتراجم الرجال.
وهذا الكلام الذي انتهينا إليه من أن يد العلم عاجزة عن الوصول إلى كل ما تصبو إليه، ومن أن الدين حاكم على العلم، يؤيده الباحث روجر ترك في كتابه "العقلانية و العلم: هل يستطيع العلم تفسير كل شيء؟".
فالمؤلف ممن يؤمنون إيمانًا جازمًا بأن العلم لا بد أن يتكئ على سلطة تتجاوزه، ويلتمس الهدى من عالم ميتافيزيقي (غيبي)، وهذه هي الفكرة التي يسعى كتابه للبرهنة عليها. يقول في الصحيفة 9 من كتابه: "كان للدين من دون شك دوره التاريخي في تقديم المناخ الفكري الذي استطاع أن يزدهر فيه العلم المعاصر. وهذا قد يبدو غريبًا على أولئك الذين نشؤوا على أن العلم والدين متنافسان. لكن الاعتقاد بأن الله هو مصدر العقل والتفسير النهائي لبنية عقلية متأصلة في العالم، يقدّم نموذجًا بديلًا نافعًا لعلم من شأنه أن يُقْبَل على ظاهره".
إذن، إن العلم وحده عاجز عن تفسير كل شيء، وتعليل كل أمر، ولا بد له إذا رام الكشفَ عن طوايا الحقائق المحجبة من أن يستنير بالنور الهادي، ألا وهو الدين، وهو – إن شئت الدقة – الإسلام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.