الخصوصية مصطلح مستحدث في العصر الحديث، يحدد الإطار الذي ينظّم مدى تدخل المجتمع في حياة الفرد، ما يجعلها غير مريحة. وتعتبر الدول الحديثة حماية الخصوصية حقًا أساسيًا لمواطنيها. علاوة على ذلك، فإن مفهوم الخصوصية يتقاطع مع مجالات عديدة، فقد تنوعت تعريفاته واعتباراته، ما يجعل من الصعب حصره في تعريف واحد شامل.
وقد أشار إلى ذلك الباحث الدكتور تنوير أحمد بن محمد نذير في رسالته للدكتوراه، بقوله: "انعقد الإجماع على صعوبة التوصل إلى تعريف جامع مانع للخصوصية"؛ ولكنه قدم ملاحظة فيما توصل في تعريف حق الخصوصية، كما رصد أن حماية الخصوصية هي تحديد مدى الاقتراب من الشخص وعالمه الذاتي، ومنح الفرد سلطة تنظيم علاقاته الشخصية.. وثانيًا، اعتبار الخصوصية مظهرًا من مظاهر الكرامة الإنسانية وحمايتها من تدخل الآخرين.
حماية الخصوصية تعتبر من المواضع الأساسية في القرآن الكريم، لأنها تساعد الإنسان على بلوغ درجة الصلاح والكمال، وتجنب ما قد يؤدي إلى الفساد والشر؛ فهي وسيلة ترفع الإنسان من الدرك الأسفل من الرذائل إلى الرتبة العليا من الفضائل
فالخصوصية ترتبط بالعالم الذاتي للفرد، وتحديد ما يعد خاصًّا يعتمد على معايير المجتمع. والمطالبة بحماية الخصوصية تعني حماية هذا العالم الذاتي من التدخّلات، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التحكم في المعلومات، وضمان مساحة شخصية محمية من أعين الآخرين.
وفقًا لما ذكر أعلاه، يستدعي الحديث عن المجالات التي يشملها مفهوم الخصوصية، أن هذا المفهوم يختلف بناءً على آراء الباحثين حول حدود الخصوصيّة؛ حيث يفضل البعض تحديدها بدقة، بينما يوسّع آخرون نطاقها. عمومًا، يعتبر كل ما لا يندرج ضمن الحياة العامة جزءًا من الحياة الخاصة، وحمايته تعد جزءًا من حماية الخصوصية.
بناءً على هذا، تتسع مجالات الخصوصية لتشمل أبعادًا أوسع.. فقد ذكّر الباحث إبراهيم بن سليمان بن عبد الله الشايع في رسالته بتقسيم مجالات الخصوصية إلى المجال المادي، الذي يحتوي على كل مجال يفرض وجوده وفق وعاء مادي ملموس، فالمسكن، وجسم الإنسان، والرسائل، والاتصالات كلها، ذات وجود مادي.. والمجال المعنوي، الذي يحتوي على كل مجال يفرض وجوده وفق وعاء معنوي، بغض النظر عن كون وسيلة الاستئثار به أو الانتفاع منه مادية أو معنوية، فالأسرار وامتلاك صلاحية اتخاذ القرار تدخل في الشأن الخاص.
فحماية الخصوصية تعتبر من المواضع الأساسية في القرآن الكريم، لأنها تساعد الإنسان على بلوغ درجة الصلاح والكمال، وتجنب ما قد يؤدي إلى الفساد والشر؛ فهي وسيلة ترفع الإنسان من الدرك الأسفل من الرذائل إلى الرتبة العليا من الفضائل.
وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدل على أهمية حماية الخصوصية، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ياأيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ذلكم خيرٌ لكم لعلّكم تذكّرون* فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتّى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم واللّه بما تعملون عليمٌ* ليس عليكم جناحٌ أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونةٍ فيها متاعٌ لكم واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون﴾ [سورة النور: 27-29].
من ظاهر هذه الآية الأولى نفهم أن دخول بيوت الآخرين محرم إلا بعد الاستئذان والسلام على أهل البيت، وهما الطريقان للحصول على الإذن. ثم جاء قول الله تعالى كترغيب للمؤمنين: ﴿ذلكم خيرٌ لكم لعلّكم تذكّرون﴾، وفي الآية الثانية، يوضح الله – عز وجل – أنه إن لم يكن هناك أحد فلا يجوز للمؤمنين الدخول حتى يحصلوا على الإذن، وإذا طلب صاحب البيت منهم المغادرة، يجب عليهم الخروج فورًا، ويعقب الله على ذلك بالقول ﴿هو أزكى لكم﴾ أي أطهر للمؤمنين، ثم يختتم بقوله ﴿واللّه بما تعملون عليمٌ﴾. وهذا للتنبيه على أن الله يعلم كل ما يقوم به الإنسان، بما في ذلك من يتجاهل طلب صاحب البيت بالمغادرة ويتدخل في خصوصياته. ويتواصل النص القرآني ليبين أنه لا حرج على المؤمنين في دخول بيوت غير مسكونة إذا كان لهم فيها حاجة أو متاع.
لم يكن في الجاهلية أي وقاية لخصوصية الإنسان، ولم يتنبه الناس إليها، فأدّبهم الله بالإسلام، لأن الله تعالى قرر أن للإنسان خصوصيات لا بد من حمايتها من الآخرين، فالبيت مكان الانفراد والخصوصية بالنسبة للشخص، وله أشياء يسترها عن الآخرين
في فترة الجاهلية، لم يكن هناك أي قيد لدخول بيوت الآخرين؛ إذ كان بإمكان أي شخص دخول أي بيت دون الحاجة إلى إذن، وفي أي وقت يشاء. وقد ذكر ابن كثير رحمه الله سبب نزول هذه الآية، بناءً على قول مقاتل بن حيان: وقال مقاتل بن حيّان في قوله: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها﴾، كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه، لا يسلّم عليه، ويقول: حيّيت صباحًا وحيّيت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم. وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: "قد دخلت"؛ فيشقّ ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغيّر اللّه ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيًّا نزهًا من الدنس والقذر والدرن، فقال: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها﴾.
ومن هنا ندرك أنه لم يكن في الجاهلية أي وقاية لخصوصية الإنسان، ولم يتنبه الناس إليها، فأدّبهم الله بالإسلام، لأن الله تعالى قرر أن للإنسان خصوصيات لا بد من حمايتها من الآخرين، فالبيت مكان الانفراد والخصوصية بالنسبة للشخص، وله أشياء يسترها عن الآخرين، أو أشياء يكره أن ينظر الناس إليها، لذا أمر الله المؤمن ألا يدخل في بيوت الغير، كما رصد القرطبي رحمه الله ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا﴾، فقال: لمّا خصّص اللّه، سبحانه، ابن آدم الّذي كرّمه وفضّله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملّكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطّلعوا على ما فيها من خارجٍ أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدّبهم بما يرجع إلى السّتر عليهم لئلا يطّلع أحد منهم على عورة.
ولكن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، دائم التعامل مع الآخرين، وقد يكون له حاجة إلى دخول بيوت الغير، فوضع الله للناس وسيلةً وهي الاستئذان، وإذا استأذن أحد لدخول البيت فأذن له صاحبه، يمكن له الدخول؛ لأن صاحب البيت علم بقدوم الأجانب إلى البيت فيمكن له أن يستر ما شاء ستره عن أعين الأجانب من خصوصياته الشخصية والعائلية، كما نبّه الأستاذ ابن عاشور عن حكمة تشريع الاستئذان لدخول البيت، حيث قال:"علّة شرع الاستئذان ما يكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهّب بل العلّة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شؤونهم".
ومن هنا يتضح لنا في الآيات القرآنية التي جاءت بتأكيد حرمة المسكن، أن الآية نصت أولًا على منع دخول بيت الغير، وجعلت حال السماح به استثناء، ثم أمرت الآية بعدم دخول البيت الذي ليس فيه أحد، فإنما يجب صون حرمة المسكن في كل حال، وإن لم يحصل أحد على الإذن للدخول من أهل الدار، وطلبوا منه الرجوع، فلا شك عندها أن من اللازم أن يرجع من هناك، ففيه دلالة على حقّ الإنسان في منع غيره من الوقوف على باب داره، ثم قال الله "ذلك أزكى لكم"، وهذا ترغيب لحرمة المسكن.
وقوله تعالى: ﴿واللّه بما تعملون عليمٌ﴾ فيه ترهيب للمتجسسين على البيوت، كما ذكر القرطبي رحمه الله، حيث قال: "توعّد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحلّ ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور". وقال الآلوسي في تفسير الآية الكريمة ﴿واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون﴾ بأنها "وعيد لمن يدخل مدخلًا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات". ومما سبق ذكره، يتضح أن الآيات المشار إليها تؤكد حرمة المسكن احترامًا لخصوصيات الإنسان.
الإنسان قد يظهر منه ما يكره أن يراه أحد، لذا أمروا بالاستئذان في هذه الأوقات. ومن هنا نفهم أن القرآن شرع الاستئذان عند دخول أحد على شخص آخر في وقت خلوته، وذلك لحكمة حفظ خصوصياته وصيانة حرمته
فالآيات المتعلقة بحرمة العورات وما شابهها في القرآن الكريم، تدل على فروع الحرمة الذاتية، التي تعد جزءًا من خصوصية الفرد، والتي لا يرغب الإنسان في أن يطّلع عليها الآخرون.
ولذلك، جاء القرآن ليقرر حفظ هذه العورات، كما ورد في سورة النور: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا ليستأذنكم الّذين ملكت أيمانكم والّذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّاتٍ من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظّهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عوراتٍ لكم ليس عليكم ولا عليهم جناحٌ بعدهنّ طوّافون عليكم بعضكم على بعضٍ كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات واللّه عليمٌ حكيمٌ* وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم كذلك يبيّن اللّه لكم آياته واللّه عليمٌ حكيمٌ﴾ [سورة النور: 57-59].
كما تقدم، فإن الأصل في دخول البيت هو الاستئذان عند الجميع. ومع ذلك، خصصت هذه الآية إذ سمحت للصبيان وللذين ملكت أيمان المؤمنين بالدخول بعد الاستئذان في الأوقات المحددة في الآية. أما في غير هذه الأوقات، فيمكن لهم الدخول دون إذن. ويقتصر هذا الحكم على هذين الفريقين فقط، بينما يجب على غيرهم الاستئذان في كل الأوقات، كما تدل عليه الآية. ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم﴾.
وسبب تخصيص هذين الفريقين بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: فالاستئذان في أوّل السورة قبل دخول البيت مطلقًا والتفريق في آخرها لأجل الحاجة؛ لأن المملوك والصغير طوّاف يحتاج إلى دخول البيت في كل ساعة فشقّ استئذانه بخلاف المحتلم.
وقال العلامة ابن عاشور في تفسيره: ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيتٍ، فهو من متمّمات ما ذكر في قوله تعالى: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا﴾ [النور:27]، وهو بمفهوم الزّمان يقتضي تخصيص عموم قوله: ﴿لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم﴾ [النور:27] الآيات؛ لأنّ ذلك عامٌّ في الأعيان والأوقات، فكان قوله: ﴿الّذين ملكت أيمانكم والّذين لم يبلغوا الحلم﴾ إلى قوله: ﴿ومن بعد صلاة العشاء﴾ تشريعًا لاستئذانهم في هذه الأوقات، وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثّلاثة.
تدل هذه الآية على أن التكشف في هذه الأوقات لم يسمح به إلا بعد الاستئذان، وذلك لأن الإنسان قد يظهر منه ما يكره أن يراه أحد من العبيد أو الصبيان، لذا أمروا بالاستئذان في هذه الأوقات. ومن هنا نفهم أن القرآن شرع الاستئذان عند دخول أحد على شخص آخر في وقت خلوته، وذلك لحكمة حفظ خصوصياته وصيانة حرمته.
وقد حرم القرآن ومنع التجسس والاغتياب، كما قال الله تعالى: ﴿ياأيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثمٌ ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتّقوا اللّه إنّ اللّه توّابٌ رحيمٌ﴾.
وهذه الآية من أهم ما ورد في القرآن لحفظ الخصوصية، إذ تؤصل بعبارات موجزة لحماية الإنسان من التجسس، وتتبع عوراته، والبحث عما خفي من أموره. وعند فهم هذا الأصل، يلاحظ أن الحكم يشمل تحريم المسارقة السمعية والبصرية، وتحريم الاطلاع على أسرار الغير، وتحريم البحث عن خصوصيات الإنسان التي يخفيها عن الآخرين، إذ إن ذلك كله يدخل في معنى التجسس.
الخصوصية تتداخل مع جوانب متعددة من حياتنا، وتفرض على الأفراد والمجتمعات مسؤولية كبيرة في الحفاظ عليها.. تطور مفهوم الخصوصية يعكس التغيرات الاجتماعية والتقنية، ما يستدعي تعزيز الوعي والالتزام بحمايتها على جميع الأصعدة
ولأن الإنسان قد يراوده خاطر التهمة ابتداءً، فيسعى للتجسس والبحث والتقصي، والتبصر والاستماع للتحقق مما وقع له من شكوك، جاء النهي الواضح عن التجسس، حمايةً للخصوصية وصونًا لحقوق الأفراد.
فالمراد بقوله تعالى ﴿ولا تجسّسوا﴾، كما قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فحُمدوا أو ذُموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره".
وكما فسر عنه صاحب التحرير والتنوير التّجسّس من آثار الظن، لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظّانّ نفسه إلى تحقيق ما ظنّه سرًّا فيسلك طريق التجنيس، فحذّرهم اللّه من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة. والتجسس من المعاملة الخفية عن المتجسَّس عليه.
ووجه النهي عنه أنه ضربٌ من الكيد والتطلّع على العورات. وقد يرى المتجسِّس من المتجسَّس عليه ما يسوؤُه فتنشأ عنه العداوة والحقد. ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصةً طيبةً وذلك من نكد العيش.
في الختام، يتضح أن مفهوم الخصوصية، رغم تحدياته وتعريفاته المتعددة، يمثل حجر الزاوية في حماية كرامة الأفراد وضمان احترام عالمهم الذاتي.
ومن خلال استعراض النصوص القرآنية وتفاسيرها العلمية، نلاحظ أن الخصوصية تتداخل مع جوانب متعددة من حياتنا، وتفرض على الأفراد والمجتمعات مسؤولية كبيرة في الحفاظ عليها.. تطور مفهوم الخصوصية يعكس التغيرات الاجتماعية والتقنية، ما يستدعي تعزيز الوعي والالتزام بحمايتها على جميع الأصعدة.
وتظلّ الخصوصية حقًّا أساسيًّا لا يمكن تجاهله، وهي تتطلب منا جميعًا احترام حدودها وتقدير أهميتها في بناء مجتمع عادل ومستدام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.