أود أن أتحدث لكم في بداية تدوينتي هذا عن أقصى أمنياتي كانت قبل أشهر بسيطة، وهي أن تنتهي الحرب دون أن أفقد أحدًا من أفراد أسرتي؛ لأنني ببساطة من خلال عملي والتصوير عايشت قصص الفقد واللوعات عند ثلاجات الموتى، وقمت بالتقاط صور كثيرة وفيديوهات لنساء وزوجات وأخوات وأبناء وهم يصرخون الفقد والقتل، وفي كل لقطة كنت أدعو الله ألا يذيقني ما يشعر به أهالي الشهداء، فالمشاهد صعبة للغاية والدموع تنهمر دائمًا.
لكن أمنيتي تبددت قبل أيام حين سقط صاروخ غادر على منزل أُسرتي في خان يونس وقتل أمي وأخي وعمي وزوجته وبنات عمي الحبيبات الثلاث، قتل أخي الممرض عبد الرحمن ونناديه "عوض"، حيث جاء عوض لوالدي بعد 9 سنوات من الانتظار ذاك الملاك البريء والشاب صاحب الابتسامة الدائمة وأمي الحنون التي لا أتجرأ أن أرثيها، فيا حسرة أيامي ويا وحدتي بعدها.
جاءني الفقد بأغلى ما لدي، جاءني في مقتل، فأي وداع وأي قلب يحتمل مشهد جنازتهم المهيب.
في منتصف الحرب بشهر مارس/آذار وصلنا من أقاربنا بغزة أن بيتنا قُصف وأخذ نصيبه من القذائف كباقي البيوت في مدينتنا التي أصبحت ركامًا فوق ركام
بعد مرور ثلاثة أيام على السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 واشتعال فتيل الحرب في غزة، خرجت من بيتي من منطقة الرمال وسط مدينة غزة قسرًا لا أحمل زاد الرحلة؛ خرجت وقتها على خبر استشهاد عمي الغالي زكريا أبو معمر، قادمة لمواساة أهلي بمدينة خان يونس وعزائهم باستشهاد ركن عظيم في عائلتنا خرجت ومعي بعض غيار من ملابسنا الصيفية خطفتها على عُجالة تحت وقع قصف الطائرات المريع، فكانت الحرب يومها على أشدها والقصف مشتعل بكل مكان من قطاع غزة، بالشمال والجنوب والشرق والغرب.
خرجنا من بيوتنا تحت التهديد والقصف، ولم نكن نتوقع أننا سنعيش هذه الأيام الصعبة بل هذه الأيام القاسية.
لم أتخيل يومًا أن أترك بيتي الحضاري والذي "عفشته" قبل شهرين من الحرب ولم أتخيل أن أعيش في خيمة وأن نصحو يوميًا على نهيق الحمير وزحمة المواصي بدلًا من زقزقة العصافير.
ابنتي إيلين خرجت بها من غزة وكان عمرها العام والنصف في بداية الحرب، كانت دائمًا تعاني من نزلات معوية متكررة في بداية النزوح لتغير الجو عليها ولعيشتنا على الرمل ولعدم توفر غذاء مناسب للأطفال في جنوب القطاع ولانقطاع الخضراوات فترة كبيرة. نشأت طفلتي في جو الخيام المعتم لا تعرف بيتها ولا ألعابها ولا سريرها الذي لم تنم عليه ليلة واحدة.
وفي منتصف الحرب بشهر مارس/آذار وصلنا من أقاربنا بغزة أن بيتنا قُصف وأخذ نصيبه من القذائف كباقي البيوت في مدينتنا التي أصبحت ركامًا فوق ركام.
حتى يومنا هذا وقد انقضى عامٌ على الحرب لا أعتقد أننا بخير، مهما بالغنا في الصبر، نحن ليس بخير، أرواحنا المتعبة وقلوبنا المنهكة وعيوننا الذبلة تسأل أين نحن؟ وإلى متى؟
في الخيام عشت أيامًا كأنني في مقلاة على النار من شدة الحرارة، تخيلوا معي أن تبقى تحت شادر من نايلون دقيقة واحدة في لهيب الصيف، لا أتوقع أن أحدًا سيتحمل هذا، كالفشار نلجأ من جانب إلى جانب نحتمي من الحرّ والشمس الساطعة.
ففي اللحظة الأولى التي وصلت بها للخيام وجميع من فيها يعاني من طابور الحمام فتكدُّس النازحين وقلة الإمكانات جعلا القائمين على المخيمات يدمجون الخيام في استخدامهم للحمام، فهنا كل 6 عائلات في حمام واحد، ولك أن تتخيل وقوف وانتظار 50 فردًا كل صباح لدخول الحمام أعزكم الله.
أما الوقوف على طابور المياه الحلوة والمالحة بالساعات يوميًا فبشق الأنفس تحصل على جالون صغير للشرب والاستحمام والغسيل والجلي، لشحّ المياه وانقطاعها في كثير من الأحيان.
مارسوا علينا أبشع أنواع القتل والتشريد والتجويع والقمع والنزوح.
وحتى يومنا هذا وقد انقضى عام على الحرب لا أعتقد أننا بخير، مهما بالغنا في الصبر، نحن ليس بخير، أرواحنا المتعبة وقلوبنا المنهكة وعيوننا الذبلة تسأل أين نحن؟ وإلى متى؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.