منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وزوجتي تصرّ على نبقى نحن وابنتانا صبا وصدف على مقربة من بعضنا، ننام متلاصقين، ونخرج مجتمعين في غالب الأحيان.. هذه هي خطتها للنجاة: إما الحياة معًا أو الموت معًا، كي لا يبقى من يحزن وحيدًا.
ليس لديّ خطة للحياة وسط أمواج الموت المتلاطمة، لكنها خطة للنجاة إما بالحياة أو الموت، الأهم أن نكون معًا، تقول زوجتي أحلام حماد وهي صحفية تعمل لصالح مؤسسة إعلامية نسوية محلية، ويقتضي عملها أن تقضي وقتًا طويلًا بالميدان، وتحرص أن تصطحب معها طفلتينا، وأحيانًا أرافقهن إن لم يكن لدي عمل آخر أنجزه.
دأبت أحلام على ذلك في أربع حروب كبرى وعشرات جولات التصعيد السابقة على قطاع غزة منذ أواخر العام 2008، لكن الحرب الحالية أكثر فتكًا، وجعلتها أكثر خشية من الفقد، تتأثر بمشهد لطفل يتيم فقد كل أفراد أسرته في غارة جوية دمرت المنزل فوق رؤوس ساكنيه، أكثر من تأثرها بأي جريمة أخرى وما أكثرها، وبنظرة فلسفية ممزوجة بالحزن والقهر تقول: "الأسرة نجت بالموت والطفل مات ببقائه حيًا وحيدًا".
خرجت يومًا لعمل، وقررت أنا يومها أن أبقى بالمنزل بصحبة صبا (15 عامًا) وصدف (12 عامًا)، لكنها ما لبثت أن عادت للمنزل، وأصرت على اصطحابهما معها. "لماذا؟ أنا باقٍ معهما" سألتها عن سبب عودتها وتغيير رأيها، واكتفت بتعبير شعبي يشير إلى القلق الشديد: "قلبي نقزني".
هذه أشد أزمات أبنائي الأربعة في سنوات غربتهم، وأثبتوا أنهم على قدر المسؤولية، واستطعنا معًا تجاوز شهور مريرة، وكانت زوجتي دائمة الدعاء والثقة بالله: "الله لن يخذلنا وسيدبر لهم أمورهم ولن يتركهم وحدهم"
في 16 مايو/ أيار الماضي كتبت تحت عنوان "بيت مدمر وعائلة مشتتة.. مراسل الجزيرة نت في غزة يروي قصة نزوحه الثالث" مقالًا عن تجربة ثمانية شهور مع النزوح المتكرر، ومنذ ذلك الحين زادت التجربة نزوحًا رابعًا، والكثير من الفقد والحزن، بفعل حرب مجنونة تكمل عامها الأول ولا يلوح في الأفق خط نهاية.
اليوم لن أكرر الحديث عن تجارب النزوح المريرة، وإصابتي ونجاتي وأسرتي وأصدقاء كنا نازحين في منزلهم من موت محقق في الشهر الأول للحرب جراء غارة مجاورة أدت لدمار كبير بالمنزل، أو عن تدمير شقتنا السكنية في برج مطل على بحر مدينة غزة كانت لنا كوطن صغير وفي كل زاوية لنا فيها ذكرى وحكاية.
هنا سأتحدث عنا كأسرة، عن 6 من الأبناء، 3 إناث و3 ذكور، أربعة منهم خارج غزة منذ سنوات متفاوتة ولدواعٍ مختلفة، الابن البكر قسام (23 عامًا) يدرس الهندسة الميكانيكية بالجزائر، وقصي (21 عامًا) يدرس السياسة والعلاقات الدولية بتركيا، وصفد (20 عامًا) تدرس الطب بتونس، وأصغر المغتربين قيس (18 عامًا) يلاحق حلمه في أوروبا لاحتراف كرة القدم.
الأربعة المغتربون عايشوا معنا تجارب حروب سابقة على غزة، غير أن وقع هذه الحرب عليهم كان قويًا، مرعبًا، مخيفًا إلى حد البكاء غير المعهود.. وعلى مدار شهورها الأولى كانوا يتصلون بنا وهم يبكون بشدة، وتزداد لهفتهم ويتملكهم القلق مع تكرار مرات قطع الاتصالات والإنترنت وخلال أيامها تغرق غزة وأهلها في بئر عميقة من العزلة الداخلية والخارجية.
لجأنا إلى سبل معقدة من أجل إيصال رسائل اطمئنان لأبنائنا، لكن هذه السبل لا تتيح لنا تحويل مصاريفهم الشهرية والجامعية، فغزة تعيش "عزلة مالية" عمقت من مأساة الغزيين، وجراء تدمير الاحتلال مقار مصارف محلية وشركات مالية وخروج غالبيتها عن الخدمة، وتوقف تدفق السيولة النقدية بين المقار الرئيسية للمصارف في رام الله بالضفة الغربية إلى فروعها بالقطاع، برزت مشكلات جمة ألمت بالمواطنين، وتعقدت حركة البيع والشراء، والتداول النقدي، والتحويلات المالية من وإلى القطاع المحاصر.
كانت هذه أشد أزمات أبنائي الأربعة في سنوات غربتهم، وأثبتوا أنهم على قدر المسؤولية، واستطعنا معًا تجاوز شهور مريرة، وكانت زوجتي دائمة الدعاء والثقة بالله: "الله لن يخذلنا وسيدبر لهم أمورهم ولن يتركهم وحدهم"، وخلال أيام الحرب المأساوية زفوا إلينا أخبارًا مفرحة: تخرُّج قسام من الجامعة والتحاقه ببرنامج الماجستير، ونجاح قصي وصفد بتفوق، واجتياز قيس اختبارًا لكرة القدم.
دمر الاحتلال غالبية المدارس على امتداد القطاع الساحلي الصغير، ويلف الغموض مستقبل مئات آلاف الطلبة الغزيين، مع سؤال متكرر لابنتي لا أستطيع إجابته: "شو حيصير معنا بالدراسة؟"
وتستمر الحرب بتفاصيل يومية حزينة ودامية، وللوهلة الأولى عندما استيقظنا على صوت دوي الصواريخ والانفجارات صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أدركت أنها مغايرة، ولن تكون حربًا كالأربع السابقة والكثير من جولات التصعيد، لكن – وللحقيقة – لم أتوقع مطلقًا أنها ستمتد لعام كامل ويزيد، وستسجل كأطول حروب إسرائيل مع محيطها العربي منذ قيامها على أنقاض فلسطين التاريخية إبان النكبة في العام 1948.
في ذلك اليوم قررنا بقاء طفلتينا صبا وصدف بالمنزل وعدم ذهابهما للمدرسة، كإجراء احترازي يتخذه الغزيون في كل حرب وتصعيد خشية على أبنائهم، ومع استمرار الحرب وتصاعدها استمر انقطاع الطلبة عن مقاعد الدراسة، حيث دمر الاحتلال غالبية المدارس على امتداد القطاع الساحلي الصغير، ويلف الغموض مستقبل مئات آلاف الطلبة الغزيين، مع سؤال متكرر لابنتي لا أستطيع إجابته: "شو حيصير معنا بالدراسة؟".
وبعد ضياع الموسم الماضي طرحت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية مبادرة للتعليم الإلكتروني عن بعد ودمج عامين بعام واحد بتدريس الطلبة منهاجًا مختصرًا ومكثفًا عبر الإنترنت، وهي خدمة من الترف وجودها لدى غالبية الغزيين ممن لا يجدون ما يسدون به رمقهم ويبقيهم على قيد الحياة، بعدما دمرت قوات الاحتلال كل سبل الحياة والبنية التحتية، بما في ذلك قطاع الاتصالات والإنترنت.
نحن لسنا أرقامًا وأكثر من 170 من صحفيينا الشهداء كانت لهم آمال وحياة، وأمهات وزوجات وأحبة يكتوون بنيران الحزن والفقد
لا يتوفر الإنترنت في منزل ذوي زوجتي "المدمر جزئيًا" ونقيم فيه منذ 5 شهور بعد نزوحنا من مدينة رفح إثر الاجتياح الإسرائيلي البري للمدينة، ما يعقد أمورنا بالعمل والتعليم، وغير مرة اضطرت أحلام لاصطحاب صبا وصدف إلى "مخيم الصحفيين" الملاصق لمجمع ناصر الطبي، حيث يتوفر الإنترنت لتسجيل الدخول لتطبيق التعليم عن بُعد، وواجهتهن تعقيدات حالت دون استمرارهن.
استمعت على نحو عابر إلى حديث جانبي تقول فيه صبا لشقيقتها الصغرى صدف: "إذا طالت الحرب ما بلحق صفد بالجامعة"، وثلاثتهن يعشقن المدرسة والتعليم ويحلمن منذ صغرهن بدراسة الطب.. توقفت أمام حديثهما الثنائي الذي تشعب – بأسلوب طفولي – إلى الكثير من تفاصيل الحرب المؤلمة، وكيف اضطرتا إلى النزوح من غزة بالقليل من ملابسهما الجميلة اعتقادًا منهما أن الغياب لن يطول، وكيف جعلتهما الحرب تتناولان -لأول مرة- أصنافًا غير مفضلة من الطعام لعدم توفر سواها، في ظل استخدام الاحتلال التجويع والتعطيش سلاحًا ضد الغزيين.
واقع الحال يغني عن السؤال، ومن وحي ما سبق يمكن للقارئ أن يتصور حياتنا كصحفيين فلسطينيين، يلازمنا القلق على مدار اللحظة في منازلنا وميدان العمل، وتواجهنا تحديات تبدأ من تعقيدات المواصلات والاتصالات والإنترنت، ومخاطر العمل بالميدان، ولا تنتهي بالاستهداف الممنهج والاغتيال، فنحن لسنا أرقامًا وأكثر من 170 من صحفيينا الشهداء كانت لهم آمال وحياة، وأمهات وزوجات وأحبة يكتوون بنيران الحزن والفقد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.