لم أكن أتوقع أنني سأعيش لأكتب هذه الكلمات، فمنذ 7 من أكتوبر/ تشرين الأول، ونحن نتعرض لحرب إبادة جماعية، كان الموت أقرب إلينا من أنفاسنا، ولكننا نجونا، نجونا بأجسادنا النحيلة، ولكن لم ننجُ بقلوبنا المثقلة بالآلام؛ فالعدوان على قطاع غزة، ترك ندبات كبيرة لم يمحُها مرورُ الزمن.
اليوم يصادف ذكرى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وما زلنا نُباد بدم بارد، وما زالت حبيبتنا غزة تتعرض لقصف متواصل، وأبناؤها ينزحون من مكان إلى آخر، فلا بيوت تؤويهم من برد الشتاء ولا من حر الصيف، ولا ملاجئ تحميهم من هول القذائف المدفعية.
عندما أتجول في شوارع غزة أصاب بنوبة من البكاء والقهر؛ فأنا التي أحبّ مدينة الحياة واللاحياة غزة، ولا أستطيع أن أشفى من حبها.
استشهد ولم نودعه ولم نقبّله القبلة الأخيرة، حتى لم نستطع إحضار جثمانه الذي بقي ثلاثة أسابيع في الشارع، إلى حين جاءت الهدنة في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، وتم دفنه دون أن يراه ذووه
أتذكر جيدًا تلك الليالي التي كنت بها أن وعائلتي على حافة الموت، وأتذكر وجعي عندما جاء خبر استشهاد حبيبي بشار ابن أختي الذي أصيب في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني، في منطقة تل الهوى، كان ذاهبًا مع أبناء عمه إلى منزلهم، ولم نكن نعلم حينها أن تل الهوى منطقة حمراء يتم استهداف أي جسم متحرك فيها، كان مصطلحًا جديدًا علينا لا ندرك مخاطره وأبعاده.
بشار كان فتًى يافعًا يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، صاحب ابتسامة جميلة، أصيب عصرًا، ولم نستطع إنقاذه تواصلنا مع كافة الطواقم الطبية والصليب الأحمر والهلال الأحمر دون جدوى، نزف حتى فقد حياته.
استشهد ولم نودعه ولم نقبله القبلة الأخيرة، حتى لم نستطع إحضار جثمانه الذي بقي لثلاثة أسابيع مكانه في الشارع، إلى حين جاءت الهدنة في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، وتم دفنه دون أن يراه ذووه، هذا هو حال الشهداء في مدينتنا، منهم من بقي في الشارع حتى تحلل جثمانه، ومنهم مازال تحت الأنقاض منذ اليوم الأول من العدوان.
بعد استشهاد ابن أختي بعدة أيام، بدأت القذائف تتناثر حولنا، وأصوات الأحزمة النارية تكاد تصم الآذان، كنت أنا وعائلتي قد نزحنا في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول، من حي التفاح شرق مدينة غزة، إلى غرب غزة بالقرب من مجمع الشفاء الطبي.
في ذلك الحين عشنا ليلة من أسوأ ليالي العدوان على غزة، كانت القذائف عنيفة جدًا تتساقط في كل مكان حولنا، وطلقات الرصاص لا تتوقف كنا لا نستطيع الجلوس انبطحنا على الأرض؛ خوفًا من رصاصة غادرة تخترق أجسادنا، كانت الساعات تمر ببطء شديد، والاتصالات مقطوعة، لا نعلم ماذا يحدث في الخارج، والسماء مضاءة بلهب الصواريخ.
الألم الذي شعرت به تعجز كلمات وحروف اللغة عن وصفه، شعور بالعجز والخوف وغصة بالقلب ستبقى تلازمني مدى الحياة
بزغت شمس الصباح، وبأعجوبة نجونا من الموت، عند الساعة الثامنة صباحًا تجمع كل سكان المنطقة ومعظم النازحين المتواجدين داخل مجمع الشفاء الطبي، وخرجنا سويًا باتجاه شارع الوحدة، سرنا مشيًا على الأقدام والرعب والخوف يسيطران على قلوبنا، وسط حصار خانق من قناصة الاحتلال الإسرائيلي.
لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظات التي عشتها، كانت مشابهة لما شاهدناها في مسلسل التغريبة الفلسطينية ولما حدثتني به جدتي التي هجّرت قسرًا من مدينة يافا المحتلة، كانت الناس تمشي ولا تعلم إلى أين ستذهب وما المجهول الذي ينتظرها.
الألم الذي شعرت به تعجز كلمات وحروف اللغة عن وصفه، شعور بالعجز والخوف وغصة بالقلب ستبقى تلازمني مدى الحياة.
كنت أعتقد أنها ستكون أسوأ وأفظع ليلة ولن يكون هناك ليالٍ مشابهة لها، ولكن عشنا مجازر شنيعة، هنا في شمال غزة لا يتخيلها العقل البشري، وما زال الاحتلال الإسرائيلي يرتكب مجازر بحق المدنيين والأطفال والنساء إلى يومنا هذا.
عندما انقطع الإنترنت عن شمال غزة، فقدت عملي ولم أستطع أن أتواصل مع أي جهة عمل، فأنا هنا في مدينة غزة المعزولة كليًا عن العالم، والتي يمارس بحقها كافة أنواع الجرائم في ظل تعتيم إعلامي ممنهج.
مدينة غزة الأبية العصية عن الانكسار هي التي تعطينا الأمل وتعلمنا كيف نربّي الأمل
في منتصف يناير/ كانون الثاني حصلت على شريحة إلكترونية، وعدت إلى عملي ووثقت العديد من القصص الإنسانية التي عانت من ويلات حرب الإبادة الجماعية على غزة، وذاقت مرارة الجوع ووجع الفقدان.
في كل مرّة كنت أذهب فيها إلى عملي، كنت أخشى أن تكون الأخيرة، وأنني سأموت في استهداف غادر، ولكن إيماني برسالتنا السامية وأننا صوت الحقيقة، وأهمية نشر وتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي، هي التي تعطيني حافز الاستمرار رغم المخاطر التي نواجهها على مدار الساعة.
مدينة غزة الأبية العصية عن الانكسار هي التي تعطينا الأمل وتعلمنا كيف نربّي الأمل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.