- عزيزي أحمد
لم يسبق لي معرفتك، لكني رأيتك في ابنك، فالولد سرّ أبيه، كما يقولون؛ التقيتُ به في بيتٍ كريمٍ آوانا مع العديد من العائلات في بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
حينما بلغ ابنك عامه الأول، كانوا ينوون إقامة حفل "يوم ميلاد" صغير على وقع أصوات الانفجارات، لكنّ خبر استشهادك كان أسبق من لهب الشمعة التي لم تشتعل.
كانت والدتك سيدة طويلة القامة، منتصبة كـ "رمح"، لكنها حينما عادت من وداعك في المستشفى، بدت مثل هلال يتكئ على عكاز.. حينها عرفتُ أن فقدان الولد "يقصمُ الظهر".
قالوا إنك بقيت فاقد الوعي في المنزل عدة أيام، ثم صحوتَ فجأة، فاستبشر أهلك خيرًا وعمّت الفرحة، لكنك سرعان ما فارقت الحياة، وكأنك استيقظت كي تودعهم
- عزيزي أبا إبراهيم
هل تذكر يا أبا إبراهيم، حينما حدثتني عن استشهاد كنّتك الكبرى؟ قصة عجيبة، قلت لي إن أهلها نزحوا من شمال القطاع إلى منزلها هاربين من الموت، وبينما هم جلوس معها بعد لحظات من وصولهم، قُصف المنزل الملاصق، نجوا هم، واستشهدت هي، وسقطتْ جثة هامدة بين أيديهم.
بعد الجنازة، استأذنوا منك للعودة إلى منزلهم الذي هربوا منه. قالوا لك: لقد أرسلنا الله يا أبا إبراهيم، كي ندفن ابنتنا.
- عزيزي أبا علي
هل تعلم يا أبا علي أنني عايشتُ قصة استشهادك؟ لقد بدأتْ حينما اتصلتْ فريال بنا بعد منتصف الليل، كي تخبرنا بهلع أن المنزل يتداعى فوق رؤوسهم جراء حزام ناري استهدف المنطقة.. كانت تنعى نفسها والعائلة، لكنّ الله نجاهم.
علمتُ لاحقًا أنك أُصبت، وأن حفيدك استشهد، وأنهم لم يستطيعوا علاجك لعدم وجود مستشفيات، بعد أن عطّل الاحتلال القطاع الصحي في شمال القطاع.
قالوا إنك بقيت فاقد الوعي في المنزل عدة أيام، ثم صحوتَ فجأة، فاستبشر أهلك خيرًا وعمّت الفرحة، لكنك سرعان ما فارقت الحياة، وكأنك استيقظت كي تودعهم.
واستمرت المأساة حينما لم يستطيعوا دفنك، وبقيت مُمددًا على الأرض بجوار جثمان حفيدك الطفل عدة أيام.. إلى رحمة الله.
ما آلمني في قصتك شيء آخر، فما تعرضتَ له يا حاج محمد أصبح شيئًا معتادًا، لكنّ الغريب أن الناس كانوا في الحروب السابقة يحتضنون ذوي الضحايا ويحاولون التخفيف من ألم مصابهم، إلا أنك لم تجد من يحتضنك
- عزيزي أبا صبحي
لا أذكر من استشهد أولًا، أنت أم شقيقك أبو علي الذي خاطبته أعلاه، لكنّ رحيلكما متشابه، قالوا إنك أيضًا أُصبت، ولم يكن هناك أي علاج، فأعطوك مسكنات قوية كي تتحمل الألم، لكنك لم تستطع، وكتب الله لك الشهادة.
وكشقيقك، لم يستطيعوا دفنك، أبقوك في غرفة وأغلقوها عدة أيام إلى أن انسحبت آليات الاحتلال، وتمكنوا من مواراتك الثرى.
عزاؤنا يا أبا صبحي أنك ترقد إلى جوار حبيبك أبي علي، تشكوان لربكما ظُلم الظالمين.
- عزيزي الحاج محمد
حينما حاولتُ إجراء مقابلة صحفية معك عن فقدانك لأسرتك وأحفادك، اعتذرتَ بلطف، قلت إن الألم يمنعك من الحديث، عذرتُك بالطبع واحترمتُ إرادتك.
لكنْ دعني أعترف لك أن ما آلمني في قصتك شيء آخر، فما تعرضتَ له يا حاج محمد أصبح شيئًا معتادًا، لكنّ الغريب أن الناس كانوا في الحروب السابقة يحتضنون ذوي الضحايا ويحاولون التخفيف من ألم مصابهم، إلا أنك لم تجد من يحتضنك.
لقد عرفتُ هذا حينما رأيتك مساء ذات اليوم، مُشردًا، وحيدًا، تسند ظهرك إلى أحد جدران المستشفى، وتحاول أن تنام قليلًا.. اُعذر الناس يا حاج محمد، فمع ويلات الحرب تكاد المرضعة أن تذهل عمّا أرضعت.
حينما وقفتُ على أنقاض المنزل الذي استُشهدت فيه يا أبا تشرين، قالوا إنك الوحيد الذي لم يعثروا على جثمانه، وجدوا زوجتك وابنتك الوحيدة، أما أنت فلا.. لقد وجدوا قميصك، والكاميرا الخاصة بك فقط
- عزيزي أبا أيمن
كم أتمنى أن تخبرني عن سبب خروجك في ذلك اليوم من خيمتك، التي أقمتها على أنقاض منزلك وسط الحصار المشدد على مستشفى الشفاء ومحيطه؟
قالوا إنك خرجت تبحث عن شربة ماء، أو طعام، فأنت تعيش وحدك بعد أن قتلتْ إسرائيل زوجتك وأولادك، وهدمتْ منزلك.
أخبروني يا أبا أيمن أنهم لم يرحموا شيخوختك، وقتلوك وسط الشارع، وأخبروني أنك بقيت ملقى في الشارع أكثر من أسبوعين.
أخبروني أيضًا أن الدبابات كانت تتسلى في السير على جثتك، حتى غاصت في أعماق الأرض.
إلى رحمة الله..
- عزيزي أبا تشرين
كلما أتذكرك، تقفز إلى ذهني قصة "مطحنة القمح المتعطلة" التي أعددناها معًا للجزيرة نت؛ تعجبت وقتها من براعتك في التصوير، والأكثر من ذلك، قدراتك في المونتاج، وبسرعة مذهلة.
توقعتُ لك مستقبلًا زاهرًا، خاصة أنك ما زلت صغيرًا وفي مقتبل عمرك، لكنّ الاحتلال لم يدعك وشأنك.
حينما وقفتُ على أنقاض المنزل الذي استُشهدت فيه يا أبا تشرين، قالوا إنك الوحيد الذي لم يعثروا على جثمانه، وجدوا زوجتك وابنتك الوحيدة، أما أنت فلا.. لقد وجدوا قميصك، والكاميرا الخاصة بك فقط.
بالمناسبة، هل تذكر يا أبا تشرين الصعوبات التي كنّا نواجهها في عملنا الصحفي أثناء الحرب؟ خطر الموت أو الإصابة، السير لمسافات شاسعة لعدم توفر المواصلات، لا كهرباء، لا إنترنت، لا مكان نجلس عليه لكتابة القصة أو عمل المونتاج، لا معدات وآلات؟
أيام صعبة وقاسية يا صديقي، لكنها جميلة لأنك كنت فيها.
إلى رحمة الله.
أخبريني يا جدتي.. لقد عاصرتِ النكبة والنكسة، وكافة الحروب والمعارك، فهل مرّ عليك ما هو أصعب مما تعرضنا له في هذه الحرب؟
- عزيزي أحمد
هل تذكر يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023؟
يومها التقيت بك، وكان اليوم الأول من الهدنة الوحيدة خلال هذه الحرب اللعينة، كنتُ سعيدًا جدًا، لأنها المرة الأولى التي سأنام فيها دون الخوف من فقدان أحد من أحبائي.
لكنك لم تكن كذلك، كان وجهك متورمًا، ومتجهمًا، دون دموع، سألتك: ما بك؟ أخبرتني أن الاحتلال قتل 3 من أطفالك ليلة أمس، وقبل ساعات معدودة من بدء سريان الهدنة.. استغربتُ من ثباتك وعدم بكائك!
حتى اليوم، كلما أراك أجدك صابرًًا قويًا.. لكني أخشى عليك انتهاء الحرب يا أحمد، حينها سيبدأ الحزن، وستبكي حتمًا.
- جدتي أم معاوية
اسمحي لي أن أسميك جدتي، فأنت صديقة جدتي رحمها الله، ومدّ الله في عمرك حتى تجاوزت التسعين، كي تشهدي هذه الحرب، وتكوني إحدى ضحاياها.
أحاول يا جدتي أن أتخيل الموقف الذي عايشتِه، وكم أتمنى أنك لم تكوني واعية لما جرى معك بفعل الشيخوخة، فما حدث لك مروّع وتشيب له الولدان.
لقد أجبروا أهلك الذين يرعونك على تركك في الشقة بمفردك، وأن ينتقلوا من الشمال إلى الجنوب، ثم قتلوا حفيدتك وزوجها رميًا بالرصاص، ثم أشعلوا النار في البناية بكاملها وقتلوكِ حرقًا.
أخبريني يا جدتي.. لقد عاصرتِ النكبة والنكسة، وكافة الحروب والمعارك، فهل مرّ عليك ما هو أصعب مما تعرضنا له في هذه الحرب؟
رأيتك يا نور في مقطع على مواقع السوشيال ميديا، كنت تنعى ابنك الوحيد وابنتك البكر أيضًا، تبكي وتقول إنهم قتلوا "مهجة فؤادك"
- عزيزي نور
كنتَ صديق طفولتي المقرب، واخترت أنت مسار العمل، والزواج المبكر.
أعرف أنك انتظرتَ طويلًا ابنك "الذكر" الأول.. 15 عامًا كاملة.
رأيتك يا نور في مقطع على مواقع السوشيال ميديا، كنت تنعى ابنك الوحيد وابنتك البكر أيضًا، تبكي وتقول إنهم قتلوا "مهجة فؤادك".
سأخبرك بشيء.. قبل أيام سألتُ عنك، أثلج صدري أنهم أخبروني بأنك "قوي وصابر".. أنت جبل يا صديقي.
- عزيزي شعب غزة
مهما طال الليل، سيطلع نهار.
والسلام ختام
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.