شعار قسم مدونات

لماذا دمّروا منزلنا يا جدّي؟

ديمة: حفيدة د. حسن النبيه (الجزيرة)

أكملت حفيدتي ديمة عامها الثالث في مارس/ آذار 2024.. ورغم صغر سنها، فهي تتميز بحرصها على استكشاف وتعلم المزيد عن العالم من حولها، وتطرح أحيانًا أسئلة صعبة. ونحن بدورنا نبدي اهتمامًا كبيرًا باستفساراتها، ونحاول تقديم إجابات تتناسب مع مستوى إدراكها.

قبل عدة أيام، سألتني ديمة الصغيرة سؤالًا صعبًا: "لماذا دمّروا منزلنا يا جدّي؟ لماذا؟!".. لقد بدا عليها الحزن الشديد وهي تستفسر عن سبب قيام طائرة حربية إسرائيلية بمهاجمة منزل عائلتنا وتحويله إلى ركام.

كان المنزل يقع في حيّ الزيتون (جنوبي شرقي مدينة غزة)، حيث كنت أعيش بسعادة مع عائلتي الكبيرة. وفي 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعرض الحيّ لقصف إسرائيلي كثيف أجبر الناس على الفرار للنجاة بأرواحهم، فلجأت مع عائلتي إلى مركز نزوح تابع للأمم المتحدة.

بعد ثلاثة أيام من نزوحنا، اتصل بي أحد الجيران بحيّ الزيتون، وأخبرني بتعرض المنطقة لعدة غارات إسرائيلية وتضرر منزل عائلتي.. وعندما ذهبت هناك في اليوم التالي، أدركت أن جاري لم يخبرني بكامل الحقيقة. كنت مذهولًا وأنا أنظر إلى المكان؛ فمنزلنا وبعض المنازل الأخرى، تم تدميرها وتسويتها بالأرض!. لقد تسبب فقدان منزلنا الجميل، وكذلك الممتلكات القيّمة التي كانت بداخله، بصدمة كبيرة للأسرة كلها.

منزل عائلة د. حسن النبيه الذي دمرته طائرة عسكرية إسرائيلية خلال الحرب المستمرة على غزة الجزيرة
منزل عائلة د. حسن النبيه الذي دمرته طائرة عسكرية إسرائيلية خلال الحرب المستمرة على غزة (الجزيرة)

لقد عايشنا العديد من الذكريات الرائعة في منزلنا، مثل حفلات: زفاف وأعياد ميلاد وولادة أطفال جدد. ولا أزال أتذكر جيدًا الحفلة الكبيرة التي أقمناها للاحتفال بعيد الميلاد الثاني لديمة في 28 مارس/ آذار 2023. للأسف، لم نُقِم أي حفلة هذا العام؛ بسبب هول الظروف في قطاع غزة (العدوان الإسرائيلي الغاشم والحصار الظالم والنزوح القسري اللاإنساني).

إعلان

يعتبر سؤال ديمة "لماذا دمّروا منزلنا؟" سؤالًا مشروعًا تمامًا، ولديها كل المبررات لأن تحزن لتدمير منزلنا. ما الذنب الذي اقترفناه لنتكبد هذه المعاناة؟

حاولت الرد على استفسار ديمة، فقمت بداية بحضنها بحنان، وأظهرتُ تفهمًا لمشاعرها على أنها أمر صحي وطبيعي. قلت لها: "إنني مثلك تمامًا حزين جدًا لفقدان منزلنا الجميل"، ثم أخبرتها أن منزلنا ليس الوحيد الذي تم تدميره؛ لقد عانت معظم العائلات في غزة من تجارب مريرة مشابهة.. وأكدت لها أن مباني غزة المدمّرة سيُعاد بناؤها، وقلت: "يا حبيبتي، سنعيد بناء منزلنا بشكل أفضل ونخصص لك غرفة جميلة". كما أكدت لديمة أنها وشقيقها الأصغر- والوحيد – براء سيكونان دومًا في أمان ورعاية: "نحن يا عزيزتي نحبك ونحب براء! وسنحرص دومًا على سلامتكما!"

رغم أن إجابتي لم تكن وافية، فإنني أعتقد أنها خفّفت من مشاعر الحزن لدى ديمة، وأسهمت كذلك في تنمية تعاطفها مع أوضاع الآخرين. ومع ذلك، بقي جزء رئيسي من استفسار ديمة لم يتم التطرق إليه.. السبب وراء قيام القوات العسكرية الإسرائيلية بتدمير منزلنا. وهذا أمر يتعلق ببعض المفاهيم التي يصعب على عقل ديمة الصغير استيعابها. وتتضمن هذه المفاهيم "وعد بلفور" و"النكبة" و"حروبًا واحتلالًا" و"عنصرية وتمييزًا" و"حصارًا".

لم تُشر رسالة بلفور بكلمة واحدة للعرب أو الفلسطينيين الأصليين، الذين كانوا يشكلون 94% من سكان فلسطين في ذلك الوقت، بل تمت الإشارة إليهم بشكل غير مباشر كـ "طوائف غير يهودية موجودة في فلسطين"

  • وعد بلفور: في رسالة بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، كتب آرثر بلفور، وزير الخارجية البريطاني، أن الحكومة البريطانية ملتزمة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين التاريخية. وأصبحت هذه الرسالة معروفة باسم "وعد بلفور"، الذي ينص على: "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليًّا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".

كما يلاحظ، لم تُشر الرسالة بكلمة واحدة للعرب أو الفلسطينيين الأصليين، الذين كانوا يشكلون 94% من سكان فلسطين في ذلك الوقت، بل تمت الإشارة إليهم بشكل غير مباشر كـ "طوائف غير يهودية موجودة في فلسطين". ووُعدت هذه الأكثرية بـ"حقوق مدنية ودينية" فقط، وليس بحقوق سياسية أو قومية. وفي المقابل، وعد الوزير بلفور في رسالته بمنح حقوق وطنية لما سماه "الشعب اليهودي"، والذي شكل أقلية صغيرة في فلسطين آنذاك. وعلى مدار ثلاثين عامًا من سيطرتها على المنطقة، قامت الحكومة البريطانية بتقديم دعم كبير للمشروع الصهيوني؛ لإنشاء دولة لليهود في فلسطين.

  • النكبة: في عام 1948، عام نكبة فلسطين، تم إنشاء دولة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، وهو حدث رافقته عمليات تطهير عرقي منظمة وعنيفة؛ إذ قامت القوات العسكرية الإسرائيلية بطرد ثلثي الفلسطينيين الأصليين من منازلهم وأراضيهم، ما حوّلهم إلى لاجئين في المناطق الفلسطينية المتبقية (الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس)، وفي أماكن مختلفة حول العالم.
  • حروب واحتلال: استمرت إسرائيل بعد إنشائها في مشروعها الاستيطاني الاستعماري، حيث شنّت المزيد من الحروب العدوانية على الفلسطينيين. ففي عام 1967، قامت القوات العسكرية الإسرائيلية باجتياح واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، إلى جانب أجزاء من مصر، وسوريا، والأردن. وفي الفترة ما بين 2008 و2024 شنّت إسرائيل خمس حروب وحشية أخرى على قطاع غزة. ولقد استخدمت إسرائيل في حروبها أسلحة فتاكة تسببت في تدمير واسع للمباني وقتل وجرح أعداد ضخمة من المدنيين الفلسطينيين.
  • عنصرية وتمييز: عانى الفلسطينيون وهم يرزحون لعقود تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي من ظلم شديد مستمر وكراهية عنصرية متواصلة، شارك في إثارتها العديد من المسؤولين الإسرائيليين، بينهم وزراء وأعضاء في الكنيست (البرلمان). وتضمنت تصريحاتهم البذيئة: "الفلسطينيون هم حشرات"، "الفلسطينيون هم حيوانات بشرية"، "لم يكن هناك شيء يسمى الفلسطينيين… لم يكن لهم وجود"، و"فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، و"الفلسطينيون يعانون من عيب واحد كبير: إنهم لم يولدوا يهودًا". ولقد دعا أحد الوزراء الإسرائيليين لطرد أكثر من مليوني فلسطيني بالقوة من قطاع غزة، بينما اقترح وزير إسرائيلي آخر تدمير قطاع غزة بقنبلة نووية وقتل جميع السكان (مليونين وثلاثمائة ألف نسمة). ولقد صدرت هذه التصريجات دون تأنيب ضمير أو رقابة أو محاسبة.
  • حصار: تفرض إسرائيل منذ عام 2006 حصارًا قاسيًا وغير قانوني على قطاع غزة، محوّلة إياه إلى أكبر سجن في العالم. وتفاقم الوضع بالعقاب الجماعي والهجمات العسكرية الإسرائيلية. ولقد دعت منظمة أمنستي الدولية مؤخرًا المجتمع الدولي للتدخل السريع، محذرة من تحوّل قطاع غزة إلى "مقبرة جماعية عملاقة".

أكثر ما سيُحيّر ديمة ويفجّر غضبها هو: لماذا تدّعي بعض الحكومات الغربية، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، أنها حامية لحقوق الإنسان بينما تقدم دعمًا سياسيًا وعسكريًا متواصلًا لإسرائيل، ما يسمح لها بمواصلة انتهاك حقوق الإنسان دون عقاب؟!

لو تصورنا بأن حفيدتي ديمة ناضجة بما فيه الكفاية، فإنها ستجد السياق التاريخي والسياسي المذكور أعلاه ذا فائدة كبيرة لفهم أبعاد القضية الفلسطينية وجرائم إسرائيل المستمرة ضد الفلسطينيين، بما في ذلك تدمير منزلنا. إلا أنها ستشعر بالإحباط لفشل المجتمع الدولي في حماية حقوق الإنسان ووضع حد لمعاناة الفلسطينيين. وستشكو متأوهة: "أليس هذا وصمة عار على الإنسانية التي تربطنا؟" وسنجدها تنظر بكآبة وتتمتم بأبيات للشاعر سعدي الشيرازي:

إعلان

بنو آدمَ جسدٌ واحدٌ
إلى عنصرٍ واحدٍ عائدٌ
إذا مسّ عضوًا أليمُ السقام
فسائر أعضائه لا تنام
إذا أنت للناس لم تألمِ
فـكيـف تسميـت بالآدمـي

ومع ذلك، أكثر ما سيُحيّر ديمة ويفجّر غضبها هو: لماذا تدّعي بعض الحكومات الغربية، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، أنها حامية لحقوق الإنسان بينما تقدم دعمًا سياسيًا وعسكريًا متواصلًا لإسرائيل، ما يسمح لها بمواصلة انتهاك حقوق الإنسان دون عقاب؟!. وستصرخ ديمة: "أليس هذا نفاقًا محضًا؟ أليس هذا تواطؤًا مع إسرائيل فيما ترتكبه من جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني؟".. وسنجدها تتساءل بغضب: "كيف يستطيع هؤلاء الناس النوم ليلًا بينما تتم المجازر بدعمهم الكامل؟".

سنسمع ديمة وهي تختتم حديثها بنبرة تفاؤلية: نحن -الفلسطينيين- مصممون على العيش مستقلين بسلام وكرامة. إن تقتل إسرائيل بعض الزهور، فسيزهر المزيد منها وبكثرة؛ فإسرائيل لن تستطيع أن توقف الربيع!

ورغم أن موقف حفيدتي سيكون مفهومًا تمامًا، فإنني لن أتركها بهذا المزاج الكئيب؛ فلديّ دومًا نظرة تفاؤلية للحياة. وعليه، سأبذل قصارى جهدي لرفع معنويات ديمة.. سأخبرها عن الوعي المتنامي في جميع أنحاء العالم بعدالة القضية الفلسطينية، والذي يعتبر نقطة تحوّل تاريخية؛ لقد عبّر كثير من الناس في أنحاء مختلفة من العالم ومن ثقافات متنوعة عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني. وشملت أنشطتهم التضامنية التظاهرات والاعتصامات والمقاطعة والإضرابات. ومن بين المشاركين البارزين في مثل هذه الفعاليات هيئات دولية ومجموعات يهودية وإسرائيلية رائدة في مجال حقوق الإنسان.

ومن النتائج المهمة لحركة التضامن وتغيير السردية ما حدث مؤخرًا من استقالات لبعض المسؤولين في الحكومات الغربية، التي تدعم إسرائيل في فظائعها ضد الفلسطينيين بدلًا من خدمة مواطنيها، ما يكشف عن أخطاء جسيمة في سياسات تلك الحكومات، ويسلّط الضوء على قضية التواطؤ في جرائم الحرب الإسرائيلية. ففي أحد أبرز هذه الحالات، قدّم مؤخرًا 12 مسؤولًا أميركيًا في إدارة الرئيس بايدن استقالاتهم علنًا وأصدروا خطابًا بعنوان: "الخدمة في المعارضة"، ووصفوا فيه سياسة الولايات المتحدة بأنها "غير أخلاقية" و"فاشلة".

عند هذه اللحظة، ستبدو ديمة منشرحة الصدر، وستعبّر عن تقديرها الكبير لحركة التضامن الحالية مع الشعب الفلسطيني، ولكن سيحدوها الأمل في مزيد من التدخل الدولي؛ لإنهاء الظلم ضد الفلسطينيين وضمان حقوقهم. وسنسمع ديمة وهي تختتم حديثها بنبرة تفاؤلية: "نحن – الفلسطينيين – مصممون على العيش مستقلين بسلام وكرامة. إن تقتل إسرائيل بعض الزهور، فسيزهر المزيد منها وبكثرة؛ فإسرائيل لن تستطيع أن توقف الربيع!".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان