شعار قسم مدونات

الشرق الأوسط الجديد.. ملامح مبهمة

نتنياهو خلال خطابه بالأمم المتحدة يرفع خارطة الشرق الأوسط الذي يتطلع لتغيره رويترز
هدف إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ضمن الأهداف الأساسية الأميركية بعد سبتمبر/ أيلول 2001 لحماية أمن الكيان الإسرائيلي (رويترز)

في 22 فبراير/ شباط 2022 كتب مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، مقالًا حول التحولات والتغيرات في الشرق الأوسط، نُشر على موقع فورين أفيرز، قدّم فيه قراءة للتغيرات الحاصلة في الشرق الأوسط منذ أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 حتى وقت كتابة المقال.

وفي المقال بيّن لينش كيف أن على الولايات المتحدة قراءة خريطة الشرق الأوسط قراءة جديدة بناءً على تلك التغيُّرات والديناميات والتفاعلات القائمة، لتستطيع الخروج من الصورة الذهنيّة التي رسمها الأكاديميون والباحثون وصنَّاع القرار الأميركي حول الشرق الأوسط، والتي بدت في كثيرٍ من الأحيان بمثابة قيد منع الولايات المتحدة من رؤية تلك التغيرات والديناميات، ووضعها في مكانِها الصحيح، للتعامل معها بما يناسب الواقع ويصبّ في المصلحة الأميركية.

ومنذ كتابة المقال قبل أكثر من سنتين وحتى اليوم، بدا أن خريطة التفاعلات والديناميات في الشرق الأوسط تغيرت تغيرًا متسارعًا، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، وأيضًا بعد "طوفان الأقصى" 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والصراعات الأخرى كالحرب في السودان، عدا عن المشاريع الاقتصادية وحتى الكوارث الطبيعية، ولا سيما انهيار سدّ درنة في ليبيا، والزلازل في تركيا وسوريا والمغرب، وصولًا إلى ما يجري اليوم من هجوم إسرائيلي غير مسبوق على حزب الله في لبنان، انتهى بإعلان اغتيال رئيس الحزب حسن نصر الله يوم 27 سبتمبر/ أيلول، وسبقه اغتيال معظم قادة الصف الأول في الحزب، مع تهديد إسرائيلي باجتياح لبنان للقضاء المبرم على الحزب.

والسؤال الذي يظهر الآن: هل استطاعت أميركا قراءة خريطة الشرق الأوسط الجديدة قراءة صحيحة؟ وهل هناك من استطاع قراءة هذه الخريطة بشكل صحيح؟

رأى باحثون أن الموقف الأميركي مما يجري في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية لم يكن مناسبًا لخطورة التغيرات الحاصلة فيه، ولم يرتقِ إلى الدرجة التي تجعل أميركا المتحكم فيما يجري، والقادرة على إدارة دفة الصراع

أميركا والشرق الأوسط

لا يبدو أن أميركا قد غيّرت من أسلوبها أو من سياستها في الشرق الأوسط، ما يعني أنها لم تغيّر طريقتها في قراءة خريطته الجديدة، وعادة يتناول باحثون الأسس التي تستند إليها السياسة الخارجية لأميركا، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، والتي تقوم على تعزيز القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، ذلك أن هذه القوة تُمكّنها من صوغ "بيئة دولية" تتوافق مع الأهداف والمصالح والقيم الأميركيَّة.

إعلان

كما أن أميركا تخوض الصراعات على مستوى العالم؛ دفاعًا عن حريتها وأمنها الذي يهدده "الآخر"، فالحفاظ على الأمن القومي الأميركي هو سنام الأمر الذي يحكم السياسة الأميركية في العالم من منطلق المصالح التي تدخل في سياقه، ومن هنا بدا أن لأميركا "حق التدخل والهيمنة" على العالم ككل، ومنه الشرق الأوسط الذي يعد من أهم المناطق في العالم بالنسبة لأميركا، لكونه المصدر الأهم للطاقة، ومركز الحليف الأول لأميركا "إسرائيل".

لذلك، كان هدف إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ضمن الأهداف الأساسية الأميركية بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، لحماية أمن الكيان الإسرائيلي، والاحتفاظ بقوة عسكرية مركزة في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر، وبدا أن مشروع رسم الخريطة الجديدة يجري على قدم وساق، لولا قيام ثورات الربيع العربي من جهة، وما تلاها من ظهور لتنظيم الدولة وغيرها من القوى الراديكالية، وصولًا إلى طوفان الأقصى الذي غيّر المعادلة كلها.

وقد رأى باحثون أن الموقف الأميركي مما يجري في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية لم يكن مناسبًا لخطورة التغيرات الحاصلة فيه، ولم يرتقِ إلى الدرجة التي تجعل أميركا المتحكم فيما يجري، والقادرة على إدارة دفة الصراع، ما يعني أن القراءة الأميركية لخريطة الشرق الأوسط ما زالت تحكمها تلك الصورة الذهنية التي تحدث عنها لينش في مقاله المشار إليه آنفًا.

وبالطبع، فإنَّ لهذه الصورة الذهنية تفصيلات ودلالات وتداعيات، يستطيع القارئ العودة إليها في دراسات كثيرة تناولت بالنقد الموقف الأميركي من متغيرات الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية، بشكل لم يحقق تطلعاتها ولا توقعاتها لمسار الأحداث.

فإذا كانت أميركا بما تملك من إمكانات ومصالح ورؤية للعالم تعاني من هذا القصور في قراءة المشهد، فهذا يعني من باب أولى أن دولًا كثيرة لا تستطيع القراءة أيضًا، فما يجري في العالم اليوم هو مخاض، ليس لولادة شرق أوسط جديد، بل لولادة نظام عالمي جديد.

في ظل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة منذ عام، وعدم قدرتها على تحقيق مكاسب حقيقية في إخضاع المقاومة الفلسطينية أو القضاء عليها، رغم استخدامها كلَّ أنواع البطش بحق أهالي غزة، بدا أن إسرائيل فقدت القوة التي سعت أميركا لدعمها بها بكل السبل المتاحة منذ عقود، وهذا ما دفعها للتوجه نحو لبنان

موازين قوى متغيرة

أظهر طوفان الأقصى أن هناك فجوة مصالح بين أميركا والكيان الإسرائيلي، رغم دعم الولايات المتحدة اللامحدود لإسرائيل، وتأكيدها على منع إيران والجماعات التي تدعمها من استغلال الوضع العام، سواء في غزة أو في لبنان، لتوسيع رقعة الصراع المهدد لإسرائيل وللمصالح الأميركية، في ظل وجود عدم يقين بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في المنطقة والعالم في حال توسع الصراع.

وفي ظل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة منذ نحو عام، وعدم قدرتها على تحقيق مكاسب حقيقية في إخضاع المقاومة الفلسطينية أو القضاء عليها، رغم استخدامها كلَّ أنواع البطش والإجرام بحق أهالي غزة، بدا أن إسرائيل فقدت القوة التي سعت أميركا لدعمها بها بكل السبل المتاحة منذ عقود، وهذا ما دفع القادة الإسرائيليين للتوجه نحو لبنان، وضرب حزب الله ضربات قاصمة، كأنها ستعيد لهم الثقة التي تزعزت أمام صمود المقاومة الفلسطينية في غزة.

هناك تغيرات ومفاجآت قد تظهر بين لحظة وأخرى، كما أن هناك تحالفات لن تستطيع أميركا منعها، في وقت بات الجميع فيه يبحثون عن موطئ قدم في عالم يسير بسرعة متزايدة نحو تعدُّد الأقطاب

ومن جانب آخر، يبدو أن ما تقوم به إسرائيل من مجازر يومية في غزة، وصلت الآن أيضًا إلى لبنان، يراكم الغضب الشعبي في الشرق الأوسط، وما يزيده توقدًا تجاهل الأنظمة الحاكمة خاصة – في البلدان العربية – ما يجري، وعدم اتخاذها موقفًا حازمًا تجاه الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة. وكذلك تجاهل الولايات المتحدة الأميركية هذا الغضب، لكونها تعتقد أن بإمكان هذه الأنظمة السيطرة على شعوبها.

إعلان

بيدَ أن باحثين يرون أن الأمر هذه المرة قد يكون مختلفًا؛ فالربيع العربي مازال حارًا، وهو ينذر بتفتح ثوراته مرة أخرى في أكثر من منطقة، بشكل متزامن مع تغير في موازين القوى العالمية، وتغير في حسابات القادة الإقليميين، وإعطاء الأنظمة في الشرق الأوسط الأولوية لبقائها الداخلي، فضلًا عن المنافسة الإقليمية.

وفي حال استمرت أميركا في تجاهلها الرأي العام في المنطقة، وركونها لفكرة قدرة الأنظمة الحليفة على السيطرة على شعوبها، فإن هذا قد يكون خطأ أميركيًا إستراتيجيًا، سيدفع المنطقة أكثر باتجاه الطرف الآخر المنافس للهيمنة الأميركية.

صورة مبهمة

كل ما يجري في الشرق الأوسط اليوم من تغيرات وتفاعلات لا يعطي مؤشرات يقينية لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المنطقة على المدى القريب؛ فهناك سيولة كبيرة، وأطراف عديدة، ومصالح متباينة، وقوى متداخلة ومتصارعة، وتعقيد كبير لن يحلها التعاطي الأميركي ذاته مع الأحداث كما تعود صانع القرار الأميركي منذ عقود؛ فهناك بؤر قد تتفجر بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، وهناك تغيرات ومفاجآت قد تظهر بين لحظة وأخرى، كما أن هناك تحالفات لن تستطيع أميركا منعها، في وقت بات الجميع فيه يبحثون عن موطئ قدم في عالم يسير بسرعة متزايدة نحو تعدد الأقطاب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان