عبر القرون المتعاقبة، وقفت الأمة الإسلامية على مفترقات طرقٍ كثيرة، منها ما خطا بها نحو المجد والازدهار، ومنها ما أدخلها في دوامات من الضياع والتفكك. وعندما نتأمل تاريخها، نجدها تتأرجح بين ذروات من العظمة والعطاء، وبين هاويات من الخذلان والتراجع.
ووسط هذه المعادلة المعقدة، تبرز قضايا الأمة الأزلية كمعضلات تستحق الوقوف عندها بتمعن، فنجد أنفسنا أمام تساؤلات لا تنفك عن ملاحقة وجدان الأمة: أهي ضحية خذلان أبنائها أم تخذيل خصومها؟ أم إن الجهل المركب بات عائقًا يعميها عن سلوك طريق الخلاص؟
هذه التساؤلات ليست مجرد كلمات على هامش نقاش عابر؛ بل هي جوهر المأساة الكبرى التي تعيشها الأمة في عصرٍ تتشابك فيه المصالح وتتعقد الرؤى.
الخذلان هنا ليس خذلان قوة أو عدة، بل هو خذلان الوعي والبصيرة؛ خذلان روح الأمة قبل جسدها
خذلان الذات: حين تتخلى الأمة عن أسباب النهوض
إن كان لهذا الخذلان معنى، فهو التخلي عن المسار الصحيح في وقت الحاجة، وتهاون الأمة في مسؤولياتها نحو نفسها ونحو مستقبلها. الأمة الإسلامية التي كانت يومًا ما منارةً للعلم والحضارة والفكر، أصبحت تتراجع بخطى ثابتة إلى الوراء، ليس بسبب قلة الموارد، أو غياب القوة البشرية، بل بسبب الخذلان الداخلي الذي يتجلى في ضعف الإرادة وانهيار البنية الفكرية والثقافية.
في مراحل تاريخية عديدة، كان للأمة من العوامل ما يكفي لأن تكون في طليعة الأمم، لكنها اختارت طريق التراجع عندما سمحت للخلافات الداخلية أن تنهش في وحدتها، وحينما تسللت إليها ثقافة التواكل على الماضي بدلًا من استشراف المستقبل. هذا الخذلان ليس نتيجة لحظة عابرة، بل هو نتاج تراكمات من التخلي عن جوهر الرسالة التي حملتها الأمة منذ بزوغ نور الإسلام.
كيف لأمة تملك أسمى رسالة من رب السماء أن تستكين لعوامل الضعف والهوان؟ كيف لمن كان قرآنه "اقرأ" أن يصبح أسير الجهل والأمية الفكرية؟ إن الخذلان هنا ليس خذلان قوة أو عدة، بل هو خذلان الوعي والبصيرة؛ خذلان روح الأمة قبل جسدها.
إستراتيجياتهم لم تعد تقتصر على الغزو المباشر، بل أصبحت تتخذ من التخذيل طريقًا طويل الأمد؛ فعندما تصبح الأمة مستنزفة في صراعات داخلية لا طائل منها يسهل على خصومها السيطرة عليها
التخذيل: سلاحٌ في يد الخصوم
ما بين خذلان الذات وتخذيل الآخر، تقف الأمة في وسط المعركة، تحاول لملمة أشلاء وجودها، لكن أصوات التخذيل ترتفع لتغرقها في مزيد من التيه. والتخذيل هو ذلك السلاح الخفي الذي يستخدمه الخصوم لتفتيت الوحدة الإسلامية وزرع الشك في قدراتها؛ فلا تكاد قضية من قضايا الأمة العادلة تظهر على الساحة حتى تجد من يسعى إلى تشويهها أو تقزيمها، مستخدمًا وسائل الإعلام الموجهة والخطابات المغرضة.
وهنا لا يمكن أن نغفل أن الخصوم، على مرّ التاريخ، أدركوا أن تدمير الأمة من الداخل أكثر فاعلية من مواجهتها عسكريًا أو اقتصاديًا. فإستراتيجياتهم لم تعد تقتصر على الغزو المباشر، بل أصبحت تتخذ من التخذيل طريقًا طويل الأمد؛ فعندما تصبح الأمة مستنزفة في صراعات داخلية لا طائل منها، وعندما تفقد الثقة في قادتها ومفكريها، يصبح من السهل على خصومها السيطرة عليها دون الحاجة إلى سلاحٍ يُشهَر أو جيشٍ يُرسل.
نرى هذا التخذيل في صور متعددة، من الحروب النفسية إلى الترويج لمفاهيم مغلوطة تُفقد الأمة تماسكها. فهناك من يعمل ليل نهار على توهين الثقة في مبادئ الأمة وموروثها الحضاري؛ ليُقنع الأجيال الجديدة بأن لا مخرج لهم سوى في التخلي عن هويتهم والاندماج في ثقافات أخرى. وما يفاقم الأزمة هو أن هذا التخذيل لا يأتي فقط من الخارج، بل إن بيننا من أصبح أداة طيّعة لهذه المخططات، إما عن قصد أو عن جهل، يساهم في إضعاف الأمة من حيث يظن أنه يقدم لها النصح.
عندما تغيب البصيرة عن الأمة، تضيع معها القضايا الأساسية، وتصبح الأمة عاجزة عن تمييز العدو من الصديق، والحقيقي من الوهمي
الجهل المركب: حين يصبح الظلام نورًا
ولكن، لعل أخطر ما يواجه الأمة الإسلامية اليوم ليس التخذيل المباشر أو الخذلان الظاهر، بل هو ذلك الجهل المركب الذي يغلّف عقول أبنائها.. الجهل المركب هو أن يظن المرء أنه يعلم وهو في الواقع لا يدري، إنه ذلك الوعي الزائف الذي يجعل الفرد أو المجتمع يظن أنه يسير في الطريق الصحيح، بينما هو يغرق في بحرٍ من المفاهيم المغلوطة.
هذا الجهل المركب ليس نتيجة ضعف تعليمي أو قلة موارد معرفية، بل هو نتاج سياساتٍ موجهة تعمل على تزييف الحقائق وتحريف المفاهيم؛ ففي عصر المعلومات والانفجار الرقمي، أصبح من السهل على الأمة الوصول إلى المعرفة، ولكنْ – للأسف – ضاعت الأولويات، وامتلأت العقول بما لا يفيد، فأصبحت الأمة تفتقر إلى البصيرة، وهي تغرق في بحر من المعلومات السطحية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
عندما تغيب البصيرة عن الأمة، تضيع معها القضايا الأساسية، وتصبح الأمة عاجزة عن تمييز العدو من الصديق، والحقيقي من الوهمي. هذا الجهل المركب يعمّق من الأزمة الفكرية، فلا ترى الأمة أعداءها الحقيقيين، ولا تدرك أين يكمن التحدي الحقيقي الذي يواجهها، وبدلًا من مواجهة مشكلاتها بحكمة وعقلانية، نجدها تستهلك طاقاتها في معارك جانبية لا طائل منها.
الخذلان يتجلى في غياب الدعم الفعلي والعملي للقضية الفلسطينية، حيث تتخذ بعض الدول الإسلامية موقف المتفرج أو المحايد، فيما تغرق شعوبها في وهم "السلام" الذي لن يأتي أبدًا ما دامت الحقوق مغتصبة
الأمة والقضايا الأزلية: بين الخذلان والجهل
عندما نعود إلى تاريخ الأمة الإسلامية، نجد أن قضاياها الكبرى ليست جديدة، بل هي قضايا ترافقها منذ قرون. قضية فلسطين – على سبيل المثال – ليست مجرد قضية شعبٍ محتل، بل هي قضية وجود بالنسبة للأمة بأسرها. ولكننا عندما نمعن النظر في تعامل الأمة مع هذه القضية، نرى خذلانًا وتخذيلًا وجهلًا مركبًا.
الخذلان يتجلى في غياب الدعم الفعلي والعملي للقضية الفلسطينية، حيث تتخذ بعض الدول الإسلامية موقف المتفرج أو المحايد، فيما تغرق شعوبها في وهم "السلام" الذي لن يأتي أبدًا ما دامت الحقوق مغتصبة. أما التخذيل، فنراه في المحاولات المستمرة لتشويه القضية الفلسطينية، وتقديمها كعبء على الأمة بدلًا من أن تكون رمزًا لنضالها ومقاومتها. وأخيرًا، الجهل المركب يظهر في عجز الأمة عن استيعاب البعد الحقيقي للقضية الفلسطينية، حيث تحولت في أذهان كثيرين إلى مجرد خلاف حدودي، أو نزاع سياسي، بينما هي في الحقيقة معركة وجودية، تمسّ كل مسلم على وجه الأرض.
تبقى القضية الأساسية ليست في "كيف نواجه التحديات؟"، بل في "كيف نعيد للأمة وعيها وبصيرتها؟ وكيف نحيي فيها الروح التي كانت يومًا ما قادرة على تغيير العالم؟" إنه ليس بالأمر السهل، ولكنه الطريق الوحيد للنهوض
هل من أمل؟
في ظل هذا الواقع المعقد، يبدو الحديث عن الأمل ضربًا من الخيال. ولكن، لا يمكن لليل أن يستمر إلى الأبد، ولا يمكن للأمة أن تبقى غارقة في بحر من الضياع دون أن تجد طريقها إلى النور.. الأمل يكمن في استعادة الأمة بصيرتها المفقودة، وفي قدرتها على إدراك أن التعامل مع التحديات التي تواجهها ليس مستحيلًا.
الأمل يتجسد في العودة إلى الجذور، إلى تلك المبادئ والقيم التي حملها الإسلام منذ بزوغه. لا يمكن للأمة أن تستعيد قوتها إذا استمرت في تواكلها على الماضي دون أن تستلهم منه الحاضر والمستقبل، ولا يمكن لها أن تنجح في مواجهة التخذيل والخذلان إلا إذا استعادت الثقة في نفسها، وفي قدراتها على التغيير.
إن الأمة الإسلامية تمتلك من الموارد الفكرية والثقافية والبشرية ما يكفي لقيادة العالم، ولكن ذلك لن يحدث ما لم تُدرك أن الخلاص يبدأ من الداخل، من تصحيح المفاهيم المغلوطة، ومن التخلص من الجهل المركب الذي يعميها عن رؤية الحقائق.. إنها بحاجة إلى نهضة فكرية شاملة، تعيد إليها روحها وثقتها، وتجعلها قادرة على مواجهة التحديات بعقلانية وقوة.
في نهاية المطاف، تبقى القضية الأساسية ليست في "كيف نواجه التحديات؟"، بل في "كيف نعيد للأمة وعيها وبصيرتها؟ وكيف نحيي فيها الروح التي كانت يومًا ما قادرة على تغيير العالم؟" إنه ليس بالأمر السهل، ولكنه الطريق الوحيد للنهوض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.