فتح المسلمون الأندلس سنة 92هـ، وأشادوا على أرضها أعظم حضارة عرفها التاريخ، حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه أوروبا بجوارها تتخبط في ظلمات الوثنية والحياة البدائية.
كانت الحروب الأهلية هي الطابع المميز للعلاقة بين حكام هذه الدويلات الذين أضاعوا الجهاد، وانغمسوا في الملذات، وأرهقوا الرعايا بالضرائب، وشجعوا دول نصارى الشمال على العمل ضدهم
عصر دول الطوائف
ظل المسلمون في الأندلس أقوياء متمكنين، وحضارتهم في ازدهار، حتى نهاية القرن الرابع الهجري، حين سقطت دولة المنصور بن أبي عامر المعافري سنة 399هـ، بعدما قُتل ولده عبدالرحمن المعروف بشنجول، حاجب الخليفة هشام بن الحكم، لطمعه في الخلافة.
وبمقتل هذا الأحمق اضطرمت الفتن في الأندلس، وأدت في النهاية إلى إلغاء الخلافة الأموية المجيدة سنة 422هـ، وقيام دويلات الطوائف سيئة الصيت على أنقاضها، كبني عباد في إشبيلية، وبني جهور في قرطبة، وبني هود في سرقسطة، وبني ذي النون في طليطلة، وبني الأفطس في بطليوس، وبني صمادح في ألميريا، وبني زيري في غرناطة.
وكانت الحروب الأهلية هي الطابع المميز للعلاقة بين حكام هذه الدويلات الذين أضاعوا الجهاد، وانغمسوا في الملذات، وأرهقوا الرعايا بالضرائب، وشجعوا دول نصارى الشمال على العمل ضدهم، وبخاصة قشتالة رائدة حركة الاسترداد، الهادفة إلى اقتلاع شجرة الإسلام من إسبانيا، وكان ملكها ألفونسو السادس (الأذفنش)، الداهية واسع الأطماع، يغير على المدن الإسلامية، وينشر الرعب والخراب في ربوعها، فكان ملوك الطوائف يتقون شره بدفع الجزية له، لأن كل همهم كان هو الاحتفاظ بالمُلك مهما كان الثمن، حتى قال فيهم ابن حزم: "والله لو علموا أن في عبادة الشيطان بقاءهم لبادروا إليها".
سارع ألفونسو إلى اتخاذ طليطلة حاضرة لمملكته، وأرسل إلى ملوك الطوائف يهددهم باكتساح عروشهم المهترئة إن لم يدخلوا في طاعته، لكن المعتمد بن عباد، قتل الرسول اليهودي الذي بعثه ألفونسو لاستلام الجزية، ورد على التهديد بتهديد مماثل
القارعة الكبرى
استمر ملوك الطوائف في صراعاتهم العبثية، حتى استيقظوا على وقع قارعة كبرى، في محرم سنة 478هـ، وهي سقوط طليطلة – ثالثة الحواضر الأندلسية بعد قرطبة وإشبيلية – بيد ألفونسو ملك قشتالة. وكان سقوط طليطلة بالغة الحصانة، والواقعة وسط الأندلس، يعني شطر الجزيرة إلى شطرين، وبالتالي عزل حواضر الشمال، كسرقسطة وتطيلة ولاردة، ووشقة عن حواضر الجنوب كإشبيلية وقرطبة وبطليوس.
وبسقوط طليطلة سقطت رقعة واسعة حواليها، ما أدى إلى مضاعفة مساحة قشتالة بين يومٍ وليلةٍ، فصارت حدودها متاخمة لحواضر الجنوب كإشبيلية وقرطبة، ولحواضر الشمال كسرقسطة، ولحواضر الشرق كبلنسية، فصارت هذه الحواضر كلها تحت التهديد النصراني، ولهذا كان سقوط طليطلة كارثة كبرى للإسلام في الأندلس، التي سادها كلها الفزع يومئذ، حتى دعاهم شاعرهم ابن العسال إلى الرحيل عنها، فقال:
يـا أهــل أندلـس شـدوا رحائـلـكـم .. فـما الـبـقــاء بهـا إلا مـن الـغـلـطِ
الـعـقـد ينسـل من أطـرافـه وأرى .. عقد الجزيرة منسـولًا من الوسطِ
وقد سارع ألفونسو إلى اتخاذ طليطلة حاضرة لمملكته، وأرسل إلى ملوك الطوائف يهددهم باكتساح عروشهم المهترئة إن لم يدخلوا في طاعته، لكن المعتمد بن عباد، قتل الرسول اليهودي الذي بعثه ألفونسو لاستلام الجزية، ورد على التهديد بتهديد مماثل.
بعد عام من سقوط طليطلة في يد النصارى، عبرت سفن المرابطين بأثقالها بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، والتقت هناك بجيوش الأندلس، ثم تحركت القوات باتجاه إشبيلية
استصراخ المرابطين
لم يكن أمام ابن عباد، والحال هذا، سوى الأخذ بمشورة العلماء، وهي الاستنجاد بالمرابطين لإنقاذ الأندلس من الخطر النصراني الداهم، ولذلك بادر بمشاورة ملوك الطوائف الآخرين بهذا الخصوص، فوافق أغلبهم كابن الأفطس صاحب بطليوس، وابن بلكين صاحب غرناطة، وابن صمادح صاحب ألميريا.
وكانت دولة المرابطين حينذاك تهيمن على المغرب كله، وتتمتع بوحدة سياسية ودينية قوية، وتقوم على أساس متين من الدين والفقه، وكان على رأسها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، الذي كان عمره يومئذ فوق السبعين، ولكنه كان ذا إرادة تقد الحديد قدًا، وكان محبًا للجهاد، شديد التمسك بالكتاب والسنة، وكان تحت يده خمسون ألف فارس من قبيلة لمتونة الصنهاجية (صنهاجة اللثام)، ولذلك فقد وافق على نجدة مسلمي الأندلس، والعبور بنفسه إليهم على رأس جيشه.
وهكذا، وبعد عام من سقوط طليطلة في يد النصارى، عبرت سفن المرابطين بأثقالها بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، والتقت هناك بجيوش الأندلس، ثم تحركت القوات باتجاه إشبيلية، فبطليوس في جنوبي غربي الأندلس، ومنها إلى سهل الزلاقة في شمالي بطليوس، يتقدمها جيش الأندلس بقيادة المعتمد، ويليه جيش المرابطين بقيادة ابن تاشفين، وكان قوام الجيشين معًا ثمانية وأربعين ألف مقاتل.
ألفونسو بعث لابن تاشفين في يوم الخميس، قبل يوم واحد من المعركة، يقول: إن غدًا الجمعة هو يوم عيدكم، ويوم الأحد يوم عيدنا،
فلتكن المعركة السبت
رد فعل ألفونسو وخطته
ولما علم ألفونسو بعبور المرابطين لخليج الزقاق استنفر أهل مملكته، وكوّن حلفًا بينه وبين ملوك نصارى الشمال الآخرين لمواجهة جيوش المسلمين، وسارع أيضًا بالاستنجاد بحكام النصارى فيما وراء جبال ألبرت، فأمدته الإمارات الفرنسية المجاورة بجيش كثير العدد، إضافة إلى جموع المتطوعين يتقدمهم القساوسة والرهبان، وبذلك اجتمع لألفونسو جيش قوامه ستون ألف مقاتل.
عندئذ، رسم خطته لمواجهة المسلمين بعيدًا عن طليطلة، فبادر بالزحف على رأس جيشه الضخم نحو الجنوب، حتى نزل شمال سهل الزلاقة، فبعث إليه ابن تاشفين يخيره بين الإسلام والجزية والحرب، فاستشاط غضبًا لذلك، وأقسم لينتقمن من ابن عباد لاستدعائه المرابطين إلى الأندلس، ورد برسالة شديدة اللهجة. وعند ذلك قام الأساقفة والرهبان على رأس جيشه فرفعوا صلبانهم ونشروا أناجيلهم، وشرعوا يتبايعون على الموت، لإثارة حماس بقية الجند.
ثم إن ألفونسو بعث لابن تاشفين في يوم الخميس، قبل يوم واحد من المعركة، يقول: "إن غدًا الجمعة هو يوم عيدكم، ويوم الأحد يوم عيدنا، فلتكن المعركة السبت"، أراد بذلك أن يخدع المسلمين، لكن هذه الخديعة لم تنطلِ عليهم، لأن ملوك الأندلس كانوا يعرفونه، لذلك فقد باتوا ليلتهم تلك وهم على أهْبة الاستعداد.
فرّ ألفونسو من ساحة المعركة محمولًا، في مئاتٍ من فرسانه، وانتهت المعركة بسحق جيشه، وخضد شوكته، وتم إنقاذ العديد من حواضر الأندلس كسرقسطة ولاردة ووشقة من سقوط وشيك، بل إنقاذ الأندلس برمتها من خطر السقوط المبكر
المعركة وأبرز نتائجها
وفي صبيحة الجمعة، 12 رجب سنة 479هـ، شنت قوات ألفونسو السادس هجومًا عنيفًا على جيش الأندلس، فزحزحته عن مواقعه، لكن المعتمد صمد وقاتل قتال الضواري، وأثخنته الجراح، وعقرت تحته ثلاثة أفراس، ولم يتزحزح عن مكانه، حتى قدمت طلائع جيش المرابطين، فنفست عنه، تلتها بقية الكتائب المرابطية بقيادة ابن تاشفين، واشتبك الجيشان، في قتال ضارٍ، وكانت أصوات طبول المرابطين الضخمة تصم الآذان، وجمحت بسببها خيول النصارى.
وبعث ابن تاشفين بفرقة من جيشه إلى معسكر ألفونسو، فأشعلت فيه النيران، فزاد ذلك من إرباك النصارى، الأمر الذي سمح لجيش المرابطين باختراق قلب جيشهم، واستطاع أحد عبيد ابن تاشفين أن يصل إلى ألفونسو نفسه، ويطعنه بخنجره وظن أنه قتله، فصاح: "قُتل الأنفوش"، وهو لم يقتله، لأن الطعنة كانت في فخذه.
وعلى إثر ذلك، فرّ ألفونسو من ساحة المعركة محمولًا، في مئاتٍ من فرسانه، وانتهت المعركة بسحق جيشه، وخضد شوكته، وتم إنقاذ العديد من حواضر الأندلس كسرقسطة ولاردة ووشقة من سقوط وشيك، بل إنقاذ الأندلس برمتها من خطر السقوط المبكر.
وأعاد هذا الانتصار الكبير الثقة إلى الأندلسيين، فقويت قلوبهم على البقاء في الأندلس، بعد أن كانوا قد أوشكوا على النزوح عنها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.