شعار قسم مدونات

المقاطعة بين الاحتجاج وتفريغ الغضب

نشطاء من المعتصمين بجامعة أكسفورد مطالبة بوقف الحرب على غزة ومقاطعة الشركات التي تدعم الاحتلال
نشطاء من المعتصمين بجامعة أكسفورد مطالبة بوقف الحرب على غزة ومقاطعة الشركات التي تدعم الاحتلال (الجزيرة)

بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، تغير العالم كثيرًا، وسقطت الأقنعة العالمية، انقلب العالم رأسًا على عقب، وشهدنا نشوء وعي جديد بالقضية الفلسطينية، خاصة بين الأوساط الغريبة؛ فقد شعر الناس بواجب أخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة تحت قنابل الكيان، فانهالت التبرعات، وانطلقت حملات التوعية حول السردية الكاذبة للاحتلال، وتحركت التظاهرات في كل مكان مطالبة العالم بالتصدي للظلم.. وضمن محاولات العالم لوقف الإبادة، ظهرت المقاطعة على الساحتَين؛ العالمية والعربية.

استخدمت المقاطعة كوسيلة ضغط واحتجاج على ممارسات مختلفة على مر التاريخ، فاستخدمتها النقابات العمالية؛ لرفع الأجور وتحسين ظروف العمل، واستخدمتها الأقليات للحصول على حقوقها المشروعة

المقاطعة تعني ببساطة نبذًا جماعيًا منظمًا لطرف ما، أكان اقتصاديًا أو سياسيًا أو حتى في علاقات اجتماعية؛ اعتراضًا على مواقف وممارسات تُعدّ مجحفة، وغير عادلة البتة.

سميت المقاطعة بلفظها الإنجليزي الحالي boycott""، في البداية على يد الأيرلندي تشارلز ستيوارت بارنيل، في القرن التاسع عشر، أثناء الاحتجاج على إيجارات الأراضي الأيرلندية المرتفعة، وتم نبذ مدير العقارات البريطاني تشارلز كنغهام بوكت، الذي أصبح اسمه أصل الكلمة الإنجليزية والفعل للمقاطعة.

استخدمت المقاطعة كوسيلة ضغط واحتجاج على ممارسات مختلفة على مر التاريخ، فاستخدمتها النقابات العمالية؛ لرفع الأجور وتحسين ظروف العمل، واستخدمتها الأقليات للحصول على حقوقها المشروعة، مثلما حدث في تالاهاسي بولاية فلوريدا، عندما تمت مقاطعة باصات المدينة من قبل المواطنين ذوي البشرة الداكنة؛ احتجاجًا على التفرقة العنصرية، بالإضافة إلى استخدام المقاطعة في حركات الاستقلال، كما فعلت حركة سواديشي الهند، والتي هدفت إلى مقاطعة المنتجات البريطانية، واستخدام بدائل هندية محلية.

والآن، يمر العالم بحركة مقاطعة جديدة، تختلف عن سابقاتها بكونها عابرة للثقافات والقارات، غير مرتبطة بعرق أو دين أو مواطنة، وإنما تنبع من ضمير الإنسانية، الذي وخزته أحداث ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في خاصرته. فاستخدمت للاحتجاج على مواقف بعض الشركات العالمية من ممارسات الكيان المحتل في غزة، والضغط اقتصاديًا على المشاركين والداعمين لهذه الإبادة، فنادى الناس بالامتناع عن شراء المنتجات، ومقاطعة المطاعم المشهورة، من منطلق الواجب الإنساني تجاه الفلسطينيين تحت شعار: "لا تدفع ثمن رصاصهم".

لاقت دعوات المقاطعة صدى كبيرًا في الدول العربية، خاصة تلك التي تملك منتجات محلية بديلة عن منتجات المقاطعة، ومثال ذلك مصر، التي ذاع صيت منتجاتها المحلية، مثل: المشروب الغازي "سبيرو سباتس"، وبديل الشيبسي " تايجر"، إلى آخر قائمة المنتجات التي انتعشت مبيعاتها على إثر تلك الدعوات، ولم يقتصر الأمر على مصر.. فولدت قائمة بالبدائل تضاهي حجم قائمة BDS (حركة مقاطعة إسرائيل) طولًا.

في غمضة عين تحولت المقاطعة من عمل احتجاجي إلى مسوغ لتفريغ الغضب في غير المقاطعين، حتى وإن كان مجرد غضب إلكتروني لا يسمن ولا يغني من جوع، غضب مصدره الشعور بالمسؤولية والعجز

بدأت المقاطعة والجميع على قلب رجل واحد، بوجود أهداف واضحة وشركات محددة، ولكن في ظل استمرار الإبادة والعالم لا يرف له جفن لسد فوهة الدماء، تعاطى الناس في أوطننا مع المقاطعة كما المخدر لتسكين الألم النفسي والعجز، وزادت قائمة المنتجات المحظورة، وتلك القائمة المحدودة التي لم تعد تؤتي مفعولها، زادت الجرعة وزاد الغضب من كل شيء، حتى إن المقاطعة طالت شركات لم تشارك في الإبادة بإصبع، لكنه الغضب من كل ماهو بلغة مغايرة، كل لسان غير عربي هو شريك، وكل شركة أجنبية هي داعمة للكيان!

في غمضة عين تحولت المقاطعة من عمل احتجاجي إلى مسوغ لتفريغ الغضب في غير المقاطعين، حتى وإن كان مجرد غضب إلكتروني لا يسمن ولا يغني من جوع، غضب مصدره الشعور بالمسؤولية والعجز، فتراشق الناس بالبذيء من القول على السوشيال ميديا، والاتهامات بالانبطاح، وكل ما يمكن أن يهوّن ألم الأيادي المكبلة.

لا يستطيع كائن من كان أن ينكر تأثيرها على بعض الشركات المستهدفة، فقد تراجعت مبيعات شركة ستاربكس الأميريكية بنسبة 1.8% على مستوى العالم في بداية عام 2024 مقارنة بالعام السابق، كما انخفضت مبيعات ماكدونالدز العالمية في الربع الأخير من العام الماضي إلى أقل من المتوسط السنوي للنمو، لتسجل أقل من 4 في المئة، مقارنة بحوالي 8.8 في المئة في الربع الثالث من العام ذاته على إثر المقاطعة.

يبقى تساؤل في خلفية كل شيء، هل سيستمر تعاطي المقاطعة؟ هل ستزداد جرعاتها أم تقضي هي بنفسها على نفسها؟

لكن الأمر لم يتوقف عند تكبيد الشركات خسائر اقتصادية ردًا على دعمها الجيشَ الصهيوني، وظهور أفراده بوجبات مجانية من ماكدونالدز، بل تحول إلى رؤية المقاطعة كمدفعية يمكنها تحرير الأرض، وحل النزاع القائم عليها، حتى إن البعض نسب خسائر إسرائيل الاقتصادية الناجمة عن حربها على غزة إلى المقاطعة والمقاطعة وحدها، ونظروا لها على أنها نضال حقيقي وأن من تركها خائن!

في عدة أشهر تحولت المقاطعة إلى قضية في ذاتها، بدلًا من كونها دعمًا لقضية، وازدادت قوائمها طولًا وامتلاءً بمنتجات مختلفة، ربما مردّ الأمر إلى صعوبة دعم القضية دعمًا آخر في كثير من البلدان، ربما أيضًا لشعور البعض -ومنذ زمن- بأنهم يناضلون لشيء ما في بلدان ذات بيئة طاردة لكل ماهو نضالي.

شيئًا فشيئًا عادت المقاطعة تنكمش في الممارسة بين الناس، تركها البعض فرارًا من المراقبة المجتمعية وفرض الوصاية، واعتراضًا على الإجبار بالمضايقات تارة وبالنبذ تارة أخرى، فلم تعد تلك الممارسة نابعة من ضمير الجميع قدر ما أصبحت نابعة من الرغبة في الشعور بأداء الواجب.

ويبقى تساؤل في خلفية كل شيء، هل سيستمر تعاطي المقاطعة؟ هل ستزداد جرعاتها أم تقضي هي بنفسها على نفسها؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان