شعار قسم مدونات

المرسم السوري في المغترب

حاولت في المغترب أن أفهم تلك الكائنات الغريبة التي أتعايش معها أو أقرّبها مني في هذا البلد (الجزيرة)

مضت عشر سنوات من الغربة تقريبًا، وتحديدًا في بلاد "القارة العجوز".. لم أعد أنا هو ذاك الأنا، ولكني أصبحت الآخر!

غادر "تامر" منذ سنوات، من دون الاستعانة بصفة ضحية الحروب وأحقادها، ولا بغطرسة الخطايا، مستفيدًا من خبرات المغتربين القدامى، مضيفًا "كاريزما" الأنا بتعاطي فن الحضور من خلال الإنجازات العملية والأكاديمية، على أمل اكتساب أرض صلبة أرسم بها تاريخي القادم، متأقلمًا مع واقع الحياة، ومتقبلًا وضعية الوطن الأم على الخريطة بكل مكوناته، من تراب وهواء وخطوط متعرجة، قاتلًا بداخلي الحنين إليه، ليس كرهًا له بل عشقًا لجلسات رمضان العائلية، وبركة أذان المساجد الروحية، وضحكات ومباركات الأصدقاء من كل الأطياف، مسيحية كانت أو إسلامية.

الانتقام الإيجابي، الانتقام من الزمن المسروق، بدءًا من لوحات الحياة البيروقراطية، وصولًا إلى سوء سمعة المغترب بكل لوحاته، أو أبقى مثل كثيرين هنا مجرد مُتفرج على إبادة الغربة للفرد والمجتمع

ومن هذا المنطلق حاولت في المغترب – وخصوصًا في السنوات الأخيرة – أن أفهم تلك الكائنات الغريبة التي أتعايش معها، أو أقرّبها مني في هذا البلد. في بعض الأحيان تعثّرت من شراسة البيئات الاجتماعية المختلفة، وفي بعضها قاومت – من خلالها – هجوم ذكريات الماضي الجميل، وبشراهة رجل يملك الشغف حاولتُ اكتناز كل شيء هنا، فحفظتُ الدروب والأبنية، ووجوهَ المارة وتصرفاتهم، وبوسترات الأفلام على واجهات دور السينما، ورحتُ ألتقط الصور بمخيلتي في الأماكن المحببة إليَّ كلوحات غير مكتملة، على أمل أن أكملها ببصماتي، وأخلد اسمي فيها وللأبد، مثل كثيرين في الغربة.

وللأمانة، فإني لا أفكر في صناعة لوحة واحدة خاصة بي، ولكن قد يكون الأمر أبسط وأكثر ثقلًا عند طرح الفكرة بالسؤال: كيف أُشفى من شعور الرغبة بالوصول إلى أغلى اللوحات التي في مخيلتي؟ ليس لوحات كبار الدولة وصناعها فقط، بل كل اللوحات التي أستطيع فعلها في المغترب، والتي فيها من المكاسبِ الكثير لي على الصعيد الشخصي من أحلام وآمال، بحيث لا يبقى للوحات السياسة الألمانية، ولا للوحات الأبحاث التكنولوجية دور إلا وتوقيعي بداخلها، معتبرًا أن اللوحتين هما لوحات الحلم الأبدية الخاصة بي.. ولكل مغترب لوحاته الخاصة.

سؤال قد يكون غريبًا، وبدوره قد يشبه الانتقام، فهل يحق لي الشعور بالرغبة في الانتقام؟

أقصد الانتقام الإيجابي، الانتقام من الزمن المسروق، بدءًا من لوحات الحياة البيروقراطية، وصولًا إلى سوء سمعة المغترب بكل لوحاته، أو أبقى مثل كثيرين هنا مجرد مُتفرج على إبادة الغربة للفرد والمجتمع، منتزِعة منا كل ألوان الطيف وشغفها، كلوحة شاحبة لا معنى لها ذات لونين أبيض وأسود؟

البعض من أصحاب تلك البيوت صنعوا لأنفسهم لوحة مختلفة عن لوحة بداية المدونة، وجعلتنا جميعًا في المغترب في المرسم ذاته

فقرة اعتراضية

بينما أكتب هذ النص، استوقفني قلمي لوضع نقطة على لوحة معاكسة لكلتا اللوحتين اللتين ذكرتهما، لوحة متعايشة معنا في المغترب، وبكل أسف لكونها لأبناء البلد في الغربة، إذ لطالما راودني شعور بأن تلك اللوحة مصنوعة – على الأغلب – بتقنية الذكاء الاصطناعي، واضعين فيها رسومات لبعض أبناء جاليتي، ومن مهامهم عمل دور الكومبارس هنا، من خلال لعب دور الضحية الشرعية الواجب مساعدتها دائمًا، والتي لم أشعر من خلالها سوى بالنفور من سخافة ما رسموه، هنا تارة وفي الصمت تارة أخرى، على أمل التبرير لهم.. ولكن ليس ذاك التبرير الذي يصل لحد قتل النفس.

فبالرغم من أننا جميعًا تربينا في تلك البيوت المتلاصقة التي تحمل الدفء في كل جدرانها، والتي لا أبالغ إن قلت إنه بإمكان أيّ كان أن ينتقل من أول الحي إلى آخره عبر سطوحها من غير شعور بالخوف، من غير أن يصطدم بحاجز أو بعارض ما، فإن البعض من أصحاب تلك البيوت صنعوا لأنفسهم لوحة مختلفة عن لوحة بداية المدونة، وجعلتنا جميعًا في المغترب في المرسم ذاته.

إن الجرائم المتكررة في الآونة الأخيرة، وآخرها حوادث الأشهر الماضية، تحديدًا في مدينتي زولينغن وإيسن الألمانيتين، بتسميات عدة، منها تسميات دينية لا تمس الديانة، ولا تمس تلك البيوت الدافئة التي عشنا فيها طفولتنا جنبًا إلى جنب، أو باسم تصرفات فردية تسيء لسمعتنا نحن – السوريين تحديدًا -، جعلتنا نشعر بالعار، ندين تلك الأعمال الإرهابية البشعة ونستنكرها تمامًا، هي وكلّ الأعمال الإرهابية المماثلة لها بشدة.

إذ إن مثل هؤلاء جعلوا البعض من الرجال ذوي البشرة البيضاء والشعر الذهبي، وبدعم خارجي من أبناء العم سام، يبدعون في صناعة فن انتقاد الإسلام السياسي، والذي بات أمرًا مربحًا في الانتخابات السياسية عند الغرب، فما كان عليهم سوى صناعة رواية فاسدة شاملة لأصحاب الدين الإسلامي، هدفها أن تغرس في الأذهان، أنَّ العالم اليوم منقسمٌ بين الدين الإسلامي وباقي الديانات، وأنَّ علينا أن نقف في صفّ الأخيرة لنواجه الآخر، بسبب هؤلاء "الكومبارس" الذين حطموا سمعة الديانة الإسلامية والهوية السورية، بتسميات ومعتقدات متطرفة.

سنبقى نجمع ألوان هذا الشعور الرافض لتمثيلهم لنا، وسنرسم لأنفسنا لوحات مليئة بالنجاح وملائمة للوطن، نخلدها هنا للأبد، لنستطيع من خلالها إبراز هوية الأنا السورية المحِبة للإنسانية وللحياة

أما عن "الكومبارس"، فأنا لا أعرفهم، وهم لا يعرفونني، وكثيرون من أبناء الجالية السورية "المخملية" لا يعرفونهم أيضًا، ولكن نعرف أنهم يعيشون بالقرب منا في هذا البلد، يحملون الهوية ذاتها ولكن بلوحة مختلفة عن لوحاتنا وألواننا، وإننا على يقين تام أننا حتى لو اجتمعنا معهم في يوم من الأيام، أو جمعتنا الصدف في مواقف وأحداث معينة، سنبقى – أنا وكثير من أبناء الجالية السورية – خارج نطاق مظلتهم الباهتة، حتى لو تلقينا جميعنا مطر الغربة وبردها القارس، وستبقى لوحاتنا ثابتة معلقة على جدران الأصالة التي تربينا عليها، مهما كانت وضعية اللوحات.

سنبقى نجمع ألوان هذا الشعور الرافض لتمثيلهم لنا، وسنرسم لأنفسنا لوحات مليئة بالنجاح وملائمة للوطن، نخلدها هنا للأبد، لنستطيع من خلالها إبراز هوية الأنا السورية المحِبة للإنسانية وللحياة.

هناك كثير ممن بدؤوا – بالفعل – في رسم لوحاتهم السورية، ومنهم من كانت ألوانهم جاذبة جدًا للغرب، ومنهم أيضًا من علقها في المراسم العالمية.. فهنيئًا لي بكم وهنيئًا لكم بي، وعلى الأمل في رسم لوحة سورية موحدة في المهجر.. أختم بها مدونتي.

رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان