شعار قسم مدونات

ماذا يحدث حينما نفقد عزيزًا لأول مرة؟

BLOGS الفقد
لا تدع لنفسك أن تسحبك داخل دوامة العجز والقعود والحزن المتواصل بل استعن بصديقك الصبر (مواقع التواصل)

يكون المُتخيل لدينا كأشخاص لم يخوضوا تلك التجربة من قبل أن رد الفعل تجاه موت قريب عزيز، هو الانهيار بالبكاء المتواصل، ثم العودة مجددًا إلى الحياة بآلية معينة لا نعلم كيفيتها.

ما لم يخبرنا أحد به أن الصدمة هي الشكل الأساسي المستحوذ على كيان الإنسان في تلك الفترة؛ فلا يستطيع الإنسان استيعاب حدوث الأمر، ولا يجد القدرة على تخيل كيفية إكمال الحياة بدون الشخص ذاته، ولا يستطيع منح نفسه صورة واضحة عن مآلات الأمور بعد خسارة شخص أساسي ومتين متأصل بداخله، لا سيما حينما تكون كافة لحظاته وأيامه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا به.

الصدمة ليست وحدها ما يحدث للإنسان بعد موت أحبابه.. بالإضافة إلى الحزن الشديد قد يواجه الإنسان أمورًا أخرى تفرض عليه أن يبقى قويًا؛ فهناك أيام يمرّ بها تكون أصعب من غيرها، وحينها لا يكون التذكر والتفكير بالأمر والبكاء طوق نجاة

ولكنْ، بعد وقوع الحدث كان من المدهش بالنسبة لي أن أبقى عالقة بمرحلة أخرى، وهي أنني حتى بعد مرور 3 أشهر ما زلت فاقدة للإدراك الفعلي بحتمية الحدث، فيحدث أنني داخل مرحلة نسيان موت الميت بعدة لحظات والتفكير بأنني ماضية للتكلم بأمر معين، فمثلًا حين إعداد الشاي آخذ بعين الاعتبار عدة مرات إضافة كأس آخر لها، دون انتباه لذلك، وأتوقف للحظات عند الأماكن التي كنّا نجلس فيها معًا، وأفكر.. هل حدث هذا حقًا؟!

رغم أن هذا لا يدوم سوى ثوانٍ معدودة فإنه مؤلم، وكأنك تشهد حقيقة الموت كل مرة، ثم تنسى ذلك، وتعيد الكرّة مرة أخرى.. ولا أقصد بذلك أن المحبة مجرد مشاعر ترتبط بقربنا المكاني من الشخص، ولكنها عامل إضافي يكثف الحزن حين موته!

لذلك، أحكام القلب قد لا تتساوى مع أي أحكام منطقية أخرى، فلا أرى الموت سببًا يجعلنا ننسى الأشخاص.. هُم فقط يموتون بانتهاء الوجود على هذه الأرض، ولكنهم لن يموتوا داخل أحبابهم؛ فنحن نبكي أحبابنا حينما نبتعد مكانيًا عنهم، فكيف بمن فارقونا إلى الأبد ومازلنا نعيش مع طيف وجودهم؟! وقد قال محمد مهدي الجواهري:

قد يقتل الحزن مَن أحبابه بَعُدوا .. عنه فكيـفَ بمـن أحـبابه فُـقِـدوا

الصدمة ليست وحدها ما يحدث للإنسان بعد موت أحبابه.. بالإضافة إلى الحزن الشديد قد يواجه الإنسان أمورًا أخرى تفرض عليه أن يبقى قويًا؛ فهناك أيام يمر بها تكون أصعب من غيرها، وحينها لا يكون التذكر والتفكير بالأمر والبكاء طوق نجاة، بل يزداد الأمر سوءًا رغم أن شعور الخسارة يبقى معي مهما حدث، أعيشه في كل الأيام، وهو في الأيام الحالكة يكون أكثر بشاعة.

الصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشقّ الجيوب

  • ابن القيم

لا يمكنني في هذه الحالة إعطاء تصور واضح حول شعور المرء سوى أنه أشبه بفقدان الإنسان جزءًا منه، كمن يفقد ذراعه مثلًا فيبقى عالقًا في ذهنه طوال حياته على مَرّ أيامه أنه فاقد لجزء أساسي منه، ولا سبيل له للتعامل مع المشكلة سوى الصبر، ولا أقول كلمة الصبر على سبيل الفلسفة أو التنظير، ولكن لأنها طوق النجاة الوحيد الذي أتاح لي الاستمرار في الحياة!

فحينما تجتمع على الإنسان عدة أمور يجب أن يواجهها بكُل ما يملك من طاقة وقوة، كمرض من يحب، وموت آخر، يكون من الصعب عليه في كثير من الأحيان دفع طاقته نحو الأفضل، وعدم الانجرار مع تيار العجز والجزع.. فلا معين للإنسان حينما يجتمع عليه الحزن والتعب والخوف والألم وواجب الوقوف سوى الصبر والمجاهدة!

ما هو الصبر؟. يقول ابن القيم (رحمه الله) في كتابه "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" إن أصل كلمة الصبر هو المنع والحبس. وعرّفه قائلًا: "فالصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشقّ الجيوب ونحوهما".. وأنا على يقين أن هذا المفهوم نعلمه جميعنا، وإن لم يكُن بصيغة تعريف كتابية، واستعنت بكتابته لكونه محفزًا لنا حين قراءتِه على استعادة الوعي المتعلق بأهمية فحوى الصبر، وأنه ليس مجرد كلمة تقال، وإنّما رد فعل معين يجب أن نلتزم به.

هذا ما يجعل الإنسان كل مرة ينظر إلى نفسه نظرة المراقبة والمحاسبة، فيجب ألا نقول أي قول يدل على سخطنا، حتى إن كان الحديث بيننا وبين أنفسنا؛ لأن ما وُضعنا فيه أمر مكتوب خارج عن نطاق سيطرتنا، ولا سبيل لنا للتدخل فيه، فمهما جزع الإنسان فلا شيءَ قادرًا على تغيير ما حدث.. لذلك قال ابن القيم: "الجزع قرين العجز وشقيقه، والصبر قرين الكيّس ومادته".

أما اللئيم فإنه يصبر اضطرارًا، ويحوم حول ساحة الجزع فلا يراها تجدي عليه شيئًا، فيصبر صبر الموثق للضرب".. وقال: "فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان

  • ابن القيم

كيف نصبر؟. في مرات عدة، حينما أخذني الحزن في مجراه الموحش، كنت أردد داخل رأسي قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ومن يتصبر يصبره الله"! والحقيقة أنني أجد نجاتي به، لأنه يعني أن الصبر هبة من الله، تكون لي من خلال إرغام نفسي على التصبر رغم مرارة ما أواجه! أشعر أن الله معي، يراني ويسمعني ويعلم ما أقاسيه من آلام موحشة لوحدي، وأنه معيني على طريقي.. فلا أعجز، بل أقف؛ لأنه يجب عليّ الوقوف، ويجب عليّ مواجهة ما حدث مهما كان حجمه!

وأفكر أيضًا أنه لا مجال لي سوى الصبر، ومن منطلق ذاك السؤال وجدت شيئًا ما حينما قرأت لابن القيم ما جعلني أنظر للصبر نظرة مختلفة، فأجد ما لم أكن ملتفتة له، وهو أنه فرَّق بين صبر اللئام وصبر الكرام، فقال: "كل أحد لا بدَّ أن يصبر على بعض ما يكره، إما اختيارًا وإما اضطرارًا، فالكريم يصبر اختيارًا لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه ويُذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر لم يرد الجزع عليه فائتًا، ولم ينزع عنه مكروهًا، وأن المقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يقدّر لا حيلة في تحصيله، فالجزع خوف محض ضرُّه أقرب من نفعه، قال بعض العقلاء: العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر".

وقال ابن القيم عن اللئيم: "وأما اللئيم فإنه يصبر اضطرارًا، فإنه يحوم حول ساحة الجزع فلا يراها تجدي عليه شيئًا، فيصبر صبر الموثق للضرب".. وقال: "فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان".

هذا جعلني أفكر بطريقة لم أفكر بها من قبل؛ فالإنسان سوف يصبر بكل حالاته، ولكنه هو من يختار طريق صبره وكيفيته، وعلى ماذا بالتحديد.. أيصبر في طاعة الرحمن: (صلاة، صوم، عبادة، قول ما يرضي الله في كُل حالاته)، أم يصبر في طاعة الشيطان: ( أهواء، شهوات)؟

أيجزع ويخلف لنفسه الهموم المضاعفة ويوقف حياته، أم يأخذ أجر الصبر بأن يُدرك أنه لا حيلة لهُ في دفع المقدور، وأن يتجرع المرارة بالصبر والتصبر وحُسن العبادة لله؟! أيُريد صبر اللئيم أم صبر الكريم؟. هذا كُله يحدد طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع الأمور، وهو ما يساعدنا أو يقف ضدنا بحسب طريقة إدارة ردة الفعل تجاه الأحداث في حياتنا!

العديد من الابتلاءات يتعرض لها الإنسان خلال مسيرة حياته، لا يمكن حصرها، ولكن الموت هو أشدُّها

يعين على الصبر قوله تعالى: {إنّ الله مع الصَّابرين}، وقوله: {إنَّ الله مع الّذين اتَّقوا والذين هُم محسنون}، وقوله: {وبشِّر الصَّابرين الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربِّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}.

فلا شيء قادرًا على أن يعين الإنسان على تحمل ما يثقله إلا معية الله لهُ؛ فتذكّر دومًا أن الله معك حينما تصبر، وأن الحياة فانية، ولا أحد يبقى، الحزن لا يبقى للأبد كما لا يبقى الفرح.. هذا كله يجعل الإنسان يرى الصبر طوق النجاة الوحيد له، وهو كذلك فعلًا، ومع كونه يعين الإنسان على تحمّل واقعه فإنه أيضًا خير عاقبة للإنسان في الدنيا والآخرة! فلا تظنن أن صبرك قد يذهب سُدى.

ويعين أيضًا على تحمّل مرارة الصبر معرفتك أنه أدنى شيء قد يؤذيك، وأنه يمكن أن يحط من خطاياك. ففي حديث أبي سعيد وأبي هريرة – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه".. فعندما يكون الإنسان في وضع جلل، ويتذكر أنّ تحمُّله وصبره على ما يقاسيه من أذى – مهما كان – يحط من خطايا ارتكبها مهما كانت، فإنما تعظّم بذلك في نفسه أهمية صبره وصموده.

وفي حديث آخر عن عائشة – رضي الله عنها – عن الرسول – صلّى الله عليه وسلم -: "إذا اشتكى المؤمن أخلصه ذلك من الذنوب كما يُخلِّصُ الكيرُ خَبَثَ الحديدِ"، وفي حديث آخر عن جابر بن عبدالله أن رسول الله – صلّى الله عليه وسلم – دخل على امرأة فقال: ما لك تُزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها. قال: لا تسبي الحمى فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكيرُ خبث الحديد" [صحيح مسلم].

فكيف نترك هذا الفضل العظيم؟! كيف يترك الإنسان فضل عاقبة الصبر لهُ، سواء في دنياه أو في الآخرة؟!

وفي الختام، هُناك العديد من الابتلاءات التي يتعرض لها الإنسان خلال مسيرة حياته، لا يمكن حصرها، ولكن الموت هو أشدها.. فلا تدع لنفسك أن تسحبك داخل دوامة العجز والقعود والحزن المتواصل، بل استعن بصديقك الصبر، وتوكل على الله.

رحم الله جدتي وموتى المسلمين وغفر الله لها ولهُم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان