أتذكر من أيام طفولتي مشهدًا لمسلسل كرتوني لا يزال يعلق بالذاكرة، فيه رجل كان يعدو للحاق بالسفينة، وبعد جهد مضنٍ تمكن الأخير من الصعود فيها، وألقى بجسده من فرط الإعياء.. صفق له عقلي حينها، وعقبت ببراءة الأطفال: "لولا محاولاته الجادة لما تمكن من الصعود".
هل نعلم أنّ الأفعال معدية؟ بمعنى أنّ الطفل يتأثر بما تقع عليه عيناه، فإذا كانت الأسرة تدمن عادة القراءة، أصبح هذا الطفل قارئًا، والعكس صحيح!!
تلك السفينة تذكرني بسفينة أخرى هي سفينة القراءة؛ هناك من ركبها، وهناك من تركها، وهناك من يعدو ويكافح ليبلغها، فأي الثلاثة أنت؟! في كل عام تولد كتب جديدة، والناس حيال هذه الكتب على أنواع، البعض ينظر للكتاب الجديد كذبابة مرت أمام أنفه، وآخر يرى أنّه وقع على كنز من الكنوز، فأيّ الأفراد أنت؟!. وهل يمثل الكتاب الجيد برأيك فعلًا صندوق كنز؟
الكتاب غير المناسب كقاطع طريق، يلزمك تجنبه لكونه يحرمك من مواصلة الرحلة، ويقطع عليك مطالعة الكتب أخرى. إذا كنت تتقاطع مع رأي العقاد، في أنّ "حياة واحدة لا تكفي"، فستكون القراءة لك حلًّا.. في دراسة إحصائية تقارن متوسط قراءات الأفراد في كلٍّ من أميركا وأوروبا والدول العربية، يحتل الفرد الأميركي الصدارة بمتوسط قراءة يبلغ أكثر من 200 ساعة في السنة، وفي أوروبا يصل الرقم لأكثر من 150 ساعة في السنة، بينما متوسط وقت القراءة لدى الفرد العربي لا يتعدى 15 دقيقة في السنة!! فماذا يعني هذا؟!
قطعًا، هذا يعني أن القراءة لدى الفرد العربي تقع في الهامش!. القراءة بالفعل مهمة، أم هي مضيعة للوقت؟ لنقدم نمذجة في هذا السياق على هيئة (هل تعلم؟).. هل تعلم أنّ بيل غيتس، صاحب مايكروسوفت، يقرأ سنويًا 50 كتابًا؟ فكم هي حصيلتنا السنوية؟ وأي الكتب هي التي نقرؤها؟
لنعد إلى الطفولة والتربية.. هل نعلم أنّ الأفعال معدية؟ بمعنى أنّ الطفل يتأثر بما تقع عليه عيناه، فإذا كانت الأسرة تدمن عادة القراءة، أصبح هذا الطفل قارئًا، والعكس صحيح!!. يحكى أنّ شابًّا اكتشف ذات مرة أنّ والده يحمل الجريدة بالمقلوب، فلما أبلغ والده، قال الأخير: اعلم يا بني أني لا أعرف القراءة، وأمسكت الجريدة كل تلك السنوات حتى تتعلم القراءة!!
أغلب هذا الجيل يجيد القراءة، غير أنّ معظمه لا يقرأ، أو لنقل: نادرًا ما يقرأ.. فقط يقتصر على قراءة الكتب الدراسية وحسب! وهذا أمر مؤلم بحق
والآن فلنخاطب الأمهات، هل تقرئين لطفلك قبل أن ينام؟. تشير دراسة أكاديمية أنّ القراءة للطفل قبل نومه تبني له صلة عاطفية تجاه القراءة طيلة حياته، فلنتبنَّ شعار: "كن قارئًا من المهد إلى اللحد".. وهناك دراسات أخرى تشير إلى أنّ رحلة التطور اللغويّ للطفل تبدأ من كونه جنينًا في رحم أمه، وتحديدًا في الأسابيع العشرة الأخيرة.. فهل سنرى في هذا الزمن أمهات يدمنَّ عادة القراءة؟
القراءة مهمة للصغار والكبار، فهل يصح لمن بلغ مرتبة علمية كبيرة أن يقول للكتاب: هذا فراق بيني وبينك؟. إنّ عادة القراءة تأخذ دورًا هامًّا في قلب الموازين المعرفيّة. يقول شيشرون، خطيب روما: "بيت بلا كتب، جسد بلا روح"! فهل تواجد الكتاب مهم في بيوتنا؟ هذا الحديث يقودنا لضرورة تكوين "مكتبة منزليّة"، فهل لديك في منزلك مكتبة؟ قد يدهشك في صاحب مكتبة منزلية ضخمة أنّه لا يقرأ منها شيئًا، بمعنى أنّ المكتبة لديه تمثل دور تحفة وديكور فقط!! وهذا أمر مؤسف يدعو للشفقة. يقول شاعر مجيد واصفًا هذا الحال:
وعند الشـيخ كـتب من أبـيـه .. مســطرة ولـكـن ما قـراهــا
يعد سطورها سطرًا فسطرًا .. ينعـنـع رأسـه ويقـول (آها)
وفي المعنى ذاته يخاطب الشيخ حافظ الحكمي ممالحًا تلامذته:
بـبـيتِ الشــيخ كـتبٌ قد شراها .. وجمّــعـها ولـكــن مـا قــراهـا
وطابت نفسه مـنــهـا بســلـوى .. إذا فـتـح المكـانَ بأن يـراهـــا
وينظر في قطـائعها ويمـضـي .. وهل تدري القطائع ما وراها
ليس مهمًّا أن تصور نفسك أمام كتب المكتبة، المهم أن تقرأ هذه الكتب التي تدير لها ظهرك!
إن أغلب هذا الجيل يجيد القراءة، غير أنّ معظمه لا يقرأ، أو لنقل: نادرًا ما يقرأ.. فقط يقتصر على قراءة الكتب الدراسية وحسب! وهذا أمر مؤلم بحق. من خلال عادة القراءة ستكتشف أنك لا تزال فقيرًا معرفيًّا، وإذا أردت أن تعرف الفرق فاجلس مع شخص قارئ!! القراءة غذاء الأرواح والعقول، والمكتبة هي ثلاجتها، فلماذا نفتح ثلاجة البطن كل يوم، ولا نفتح ثلاجة العقول؟!
والسؤال المُلحّ: ماذا نقرأ؟ وأي الكتب نختار؟. باختصار: هناك كتاب ليس لك، دعه لغيرك وابحث عما يضيف، تمسك بما يثريك ودع ما لا يثريك، اصرف بعض الوقت للبحث عن الكتاب الجيد، فإذا عثرت عليه فعضّ عليه بالنواجذ.
الخلاصة.. هناك كتب تستحق الشراء والقراءة، فاعرف كيف تختار، ودقق في الهدف، ثم شدّ الوتر وأطلق الرمية.. إن أقل ما تخرج به من مطالعة كتاب ثراء لغوي، وثروة لفظية تضاف لقاموسك الشخصي.
في الختام، ليس مهمًّا أن تصور نفسك أمام كتب المكتبة، المهم أن تقرأ هذه الكتب التي تدير لها ظهرك!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.