شعار قسم مدونات

قمة "قازان": محطة في مسار تثبيت "بريكس" قوةً عالمية

صورة عامة لمعبد الأديان في قازان / مراسلو الجزيرة / معبد الأديان ( تترستان ) / تقرير طارق الأبيض
معبد الأديان في قازان (الجزيرة)

تنظر روسيا إلى القمة التي نظمتها في قازان على أنها محطة مفصلية، تكتسي طابعًا تأسيسيًا، وتثبت انتقال "بريكس" من "تكتل صاعد" إلى "قوة مؤثرة" على صعيد العلاقات الدوليّة، وتعزيز آليات التبادل التجاري بأدوات مالية واقتصادية جديدة.. لذا، أطلقت موسكو استعداداتها باكرًا منذ مطلع العام الحالي، كي تكون هذه القمّة مختلفة في الشكل والمضمون.

اختيار مدينة "قازان" ذات الإرث التاريخي والثقافي الإسلامي، الممتزج بالحضارة الروسية العريقة، يحمل رسالة مزدوجة تعبر عن متانة العلاقات الروسية مع العالم الإسلامي

رسائل الجغرافيا والتاريخ

من ناحية الشكل، وجهت روسيا دعوات إلى 40 دولة لحضور القمة، حضرت منها قرابة 34، بينها 24 دولة أكدت تمثيلها على مستوى رئيس أو رئيس وزراء، لتكون بذلك القمة الأكثر حضورًا وتمثيلًا.. وفي ذلك رسالة إلى الغرب بأن "بريكس" تواصل مسار التطور وفق قواعد راسخة وجذابة.

لم يكن اختيار موسكو لمدينة "قازان" لاحتضان القمة اعتباطيًا، أو بقصد تعميم الفوائد الآنية مثل: الاهتمام الإعلامي والترويج السياحي والثقافي، بل كان للإدارة الروسية أهداف أبعد من ذلك. فقد اكتسبت مدينة "قازان" خبرة تنظيمية كبيرة، نجحت في مراكمتها عبر الأحداث والمناسبات التي استضافتها، وسمعة بارزة على الصعيد الدولي، لا سيما أنّها تتمتع ببنية تحتية متطورة، تعكس نجاح السياسات التنموية للحكومات الروسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين.

علاوة على ذلك، فإن اختيار مدينة "قازان" ذات الإرث التاريخي والثقافي الإسلامي، الممتزج بالحضارة الروسية العريقة، يحمل رسالة مزدوجة تعبر عن متانة العلاقات الروسية مع العالم الإسلامي، وعن سعيها لتوطيد وتطوير هذه العلاقات وفق مبادئ المساواة والتعاون والتعددية. وكذلك الحال بالنسبة للشرق الآسيوي، ولا سيما أنّ جمهورية تتارستان تُعد بوابة آسيا نحو أوروبا، والعكس بالعكس.

وقع الرئيس بوتين في شهر أغسطس/ آب الماضي على قانون لإطلاق "الروبل" الرقمي، وكذلك إطلاق منصة إلكترونية للعملة الرقمية الروسية. كما عملت موسكو على رفع حجم التسوية بالعملة الوطنية في العمليات التجارية مع بكين

آليات لتطوير التبادل الاقتصادي

أمّا في المضمون، فقد وضعت موسكو للقمة عناوين شديدة الأهمية، تشكل نقلة نوعية وهائلة في مسار تطور التكتل ونمو تأثيره على صعيد العلاقات الدولية. فمنذ قمة "بريكس" 2023 في جنوب أفريقيا، أكّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العمل على آليات عمل لتطبيقها واختبارها خلال الأشهر الفائتة، وأبرزها:

إعلان

تطوير ممر الشمال – الجنوب، للربط بين مناطق الشمال والخليج العربي والهند، وطرح آليات للتسوية المالية خارج منظومة هيمنة الدولار الأميركي، عبر العملات الوطنية، وكذلك عبر منصات للدفع بالعملات الرقمية (جسر بريكس).

كذلك طرح آلية لتبادل المعلومات المالية بين دول "بريكس"، تكون بديلًا لها عن استخدام نظام "سويفت"، وذلك من أجل ضمان المدفوعات الدولية. وتشكيل بنية تحتية رقمية موحدة لدول "بريكس"، تساعد في التوافق في مجال الأعمال ومجالات الأمن المعلوماتي (السيبراني). وخلق بنية تحتية مريحة لرواد الأعمال، تكون جاذبة للاستثمارات والتقنيات الجديدة.

واظبت الإدارة الروسية على اختبار تطبيق هذه العناوين والطموحات خلال الأشهر الفائتة، حيث وقع الرئيس بوتين في شهر أغسطس/ آب الماضي على قانون لإطلاق "الروبل" الرقمي، وكذلك إطلاق منصة إلكترونية للعملة الرقمية الروسية.

كما عملت موسكو على رفع حجم التسوية بالعملة الوطنية في العمليات التجارية مع بكين، والتي وصلت إلى حدود 90% تقريبًا، وذلك من أجل تقديم تأكيد موثوقية هذا النموذج.

ترفع موسكو خلال قمة "قازان" عناوين مثل تعزيز التعددية، والتعاون، والانفتاح، والمساواة، بالإضافة إلى وضع الأمن العالمي على رأس الأولويات التي تطرحها، ويشتمل على مفهوم الأمن الغذائي

نموذج جيوسياسي جذاب

تنطلق روسيا في مقاربتها السياسية والاقتصادية لـ"بريكس" ودورها من ضرورة تشكيل منصة عالمية وفق أسس جديدة في العلاقات الدولية؛ تستند إلى الثغرات البارزة في النظام العالمي الحالي، وتراجع فاعلية آليات الإدارة التي تمخضت عن الحرب العالمية الثانية ونظام "بريتون وودز" ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من الهياكل الغربية التي فقدت مصداقيتها، وصار يُنظر إليها على أنّها أدوات لترسيخ هيمنة الغرب، وسيطرته على الموارد المالية والطبيعية لدول أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.

لذا، ترفع موسكو خلال قمة "قازان" عناوين، مثل: تعزيز التعددية، والتعاون، والانفتاح، والمساواة، بالإضافة إلى وضع الأمن العالمي على رأس الأولويات التي تطرحها، ويشتمل على مفهوم الأمن الغذائي الذي يثير القلق لدى عشرات البلدان التي تكافح للحصول على حاجاتها من الموارد الغذائية، في ظلّ الإشكاليات التي تحيط بسلاسل التوريد العالمية الحالية.

هذه العناوين، تُعدّ عاملًا شديد الجذب بالنسبة لعشرات البلدان حول العالم، الأمر الذي دفع بـ27 دولة إلى الإعراب عن رغبتها في الانضمام إلى "بريكس"، ولا سيما مع تركيز موسكو على الحفاظ على سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

هذه الدول هي: تركيا، الجزائر، أذربيجان، بنغلاديش، بوليفيا، بيلاروسيا، البحرين، فيتنام، هندوراس، فنزويلا، زيمبابوي، إندونيسيا، كوبا، الكويت، كازاخستان، المغرب، نيكاراغوا، نيجيريا، باكستان، غينيا الاستوائية، السنغال، أوغندا، تشاد، سوريا، سريلانكا، إريتريا، جنوب السودان.

بيد أنّ روسيا وشركاءها لا يستعجلون انضمام هذه الدول دفعة واحدة، بل وفق نمط متدرج وهادئ، يراعي شروط "بريكس" وآليات عمله، وتطوره، والتراكم التاريخي، وكذلك هواجس أعضائه.

وإذا ما نظرنا إلى توزع الدول الراغبة في الانضمام إلى "بريكس" نجد أنها تشمل كل القارات والأقاليم الجغرافية، الأمر الكفيل بتحويل "بريكس" إلى قوة جيوسياسية ذات تأثير واسع، يتجه بثبات إلى قيادة الصراع بين "الجنوب العالمي" والغرب، والذي يمهد لنشوء نظام عالمي جديد أكثر مساواة وعدالة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان