طاعة ولي الأمر بين الانضباط الشرعي والتسيب الاستبدادي (1)

blogs - مكتبة إسلامية
الدارسون والباحثون والعلماء والمؤرخين يقرون بأن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية (رويترز)

لا يخفى أن الإنسان خلقه الله تعالى مدنيًا واجتماعيًا بطبعه، فلا يمكنه أن يعيش وحده، ويفي بجميع حاجاته، ويحقق كافة متطلباته ومستلزماته؛ فكان لا بدّ من أن يتعاون مع إخوته في الإنسانية، ليحقق معهم وبهم التكامل والتعاون والتآزر، من أجل بناء مجتمع يسوده الإخاء والوئام والمحبة والصفاء.. هكذا قضت الشرائع المنزلة من رب العالمين، وهذا ما جاءت لتحقيق مقاصده شريعة الرسول الأمين، صلى الله عليه وسلم.

الشريعة الغراء، من أجل تحقيق مقصد العمران، وضبط التجمعات البشرية، فرضت على المسلمين طاعة ولي أمرهم، الذي يختارونه من بينهم اختيارًا حرًا ونزيهًا، من غير إكراه ولا تعسف ولا تزوير، أو غش وتدليس

ولما كان الإنسان ميالًا بطبعه إلى الاستيلاء والهيمنة، وعدم الانضباط والتقيد بالشرائع والقوانين الضابطة لتصرفاته، فيقع بذلك التهارج والتقاتل والتنازع، نظمت الشريعة الإسلامية المسلمين، وفرضت عليهم طاعة ولي أمرهم، بعد أن يرتضوه بينهم وليًا وحكمًا، لينظم حياتهم، ويمنع قويهم من ظلم ضعيفهم، وغنيهم من قهر فقيرهم، فسميت تصرفاته بذلك سياسة، لأنه يسوسهم ويرشدهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، حتى يؤلف بينهم، ويجمعهم على الخير والصلاح والفلاح، وتحقيق مقصد العمران.

على أن الشريعة الغراء، من أجل تحقيق مقصد العمران، وضبط التجمعات البشرية، فرضت على المسلمين طاعة ولي أمرهم، الذي يختارونه من بينهم اختيارًا حرًا ونزيهًا، من غير إكراه ولا تعسف ولا تزوير، أو غش وتدليس، فجاءت في ذلك نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، تأمر بالطاعة، وتنبذ المفارقة للجماعة والتمرد والعصيان.

غير أن هناك إشكالًا وقع في فهم الأحاديث النبوية الآمرة بطاعة ولي الأمر، فألفينا بعضهم يحملها كلها على مطلقاتها، ويعني ذلك عنده الطاعة المطلقة لولي الأمر، ولو كان غارقًا في الظلم والفساد، واستعباد العباد، والقضاء على البلاد. بينما بعضهم نظر فيها نظر المتفحص والمتأمل في سياقاتها، وحمل بعضها على بعض من حيث الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص.

إعلان

ونحن نتوخى من هذا البحث بسط الكلام عن بعض القضايا التي نرى أن كثيرًا من الناس لم ينتبهوا إليها، ولم يلتفتوا إلى أهميتها في فهم أحاديث الطاعة، لا سيما أن التيار المدخلي الذي أصبح اليوم ينافح بالباطل عن الحكام، ويوجب طاعتهم الطاعة العمياء بلا قيود ولا شروط، يريدها معوجة غير سقيمة؛ إذ يستشهد ببعض أحاديث الطاعة، فيروج لها كأنها الوحيدة التي جاءت بها السنة، من غير التفات إلى مثيلاتها من المقيدات، أو المقاصد والكليات الشرعيات، وهذا أكبر تدليس وتلبيس على الناس في دينهم.

عقد ابن خلدون أيضًا فصلًا (في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة)، وأرجع السبب في ذلك إلى خلق التوحش المنغرز في طبيعتهم

أولًا: كيف نفهم أحاديث طاعة أولي الأمر؟

في نظرنا لا يستقيم فهم أحاديث طاعة ولي الأمر إلا بفهم السياق الذي أتت فيه، وذلك بالرجوع إلى معرفة واقع العرب قبل مجيء الإسلام، وما كانوا عليه في جاهليتهم، وطبيعة مجتمعهم القبلي، وأنهم كانوا قومًا رحّلًا، فكانوا بذلك يأنفون من طاعة بعضهم بعضًا، فلم يكونوا عريقين في التحضر، بحيث كانت لهم قوانين وحكام يطيعونهم أو يخضعون لهم، كما هو الشأن عند الفرس والرومان.

فإذن، هم أمة من الناس تأنف الانضباط والطاعة لولاة الأمور، وهذا الذي كانوا عليه هو ما عبر عنه الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: "كل من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضًا طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله. فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمرهم رسول الله، لا طاعة مطلقة بل طاعة مستثناة فيما لهم وعليهم".

وللمؤرّخ العلامة ابن خلدون – رحمه الله – إشارة وجيهة، وفي غاية الأهمية، تساعدنا على فهم طبيعة العرب في كونهم لم يكونوا ينقادون للحكم، ولا شأن لهم بالنظام السياسي، ففي معرض حديثه عن سبب كون (العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب)، قال: "والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقًا وجِبِلّة، وكان عندهم ملذوذًا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلب.. وأيضًا فهم متنافسون في الرياسة، وقل أن يسلِّم أحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه، أو أخاه، أو كبير عشيرته".

وقد عقد ابن خلدون أيضًا فصلًا (في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة)، وأرجع السبب في ذلك إلى خلق التوحش المنغرز في طبيعتهم، وفي ذلك يقول: "والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم. وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهِب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس".

فقد كانت المدينة تفتقد الوحدة الإدارية في شؤونها كافة؛ فلم توجد فيها أية سلطة إدارية تدل على وجود نظام سياسي من أي نوع، يلتزم به أهلها وينزلون على حكمه

  • د. محمد سليم العوا

على أن ابن خلدون لا ينفك يذكر هذه الصفة، وأعني بها عدم الانقياد، ذكرها في مواطن من مقدمته، فهو بذلك يفسر بها طبيعة العرب النفسية والاجتماعية، فهم أبعد الناس عن فكر الطاعة، التي جاء بها الشرع، ثم هو يؤكد على أنهم لا ينضبطون إلا بالدين نبوة وولاية، لأن الأمر أصبح له علاقة بوازع ديني جواني، يصرفهم عما كانوا عليه من قبل.

إعلان

والدارسون والباحثون فضلًا عن العلماء والمؤرخين يقرون بهذه الحقيقة في شأن العرب، من ذلك ما ذكره الدكتور محمد سليم العوا (حفظه الله) عن الواقع السياسي للقبائل العربية البدوية: "في ظل هذا المجتمع المستند أساسًا إلى غريزة البقاء، كان من الطبيعي ألا يشكل انضواء الأفراد تحت لواء الجماعة مجتمعًا سياسيًا، وأن تغيب تبعًا لذلك أية صورة للسلطة السياسية داخل هذه المجتمعات.. ولم يكن لمثل هذه السلطة وجود في تجمعات البدو أو واحاتهم التي ينتمون إليها. بل كان الأفراد جميعًا يتساوون في الحقوق والواجبات، مساواة جعلت من رئيس القبيلة (أو شيخها) أو من (سيد الحي) مجرد شخص ذي سلطة معنوية، هدفها الحفاظ على الوحدة بين أبناء قبيلته أو عشيرته".

وقال عن الزعامات القبلية: "وهذه الزعامات القبلية لم تكن تمثل سلطانًا سياسيًا يخضع له الجميع بل كانت سلطة قبلية عرفية، تطاع بحكم العادات القبلية لا بحكم التنظيم السياسي".

وقد يذهب بعض الناس إلى أن هذه الحالة إنما هي خاصة بالبدو، خلافًا لما كانت عليه بعض الأمصار العربية الكبرى، وعلى رأسها مكة المكرمة، وواقع الحال من خلال ما ذكره المؤرخون، أن مكة بالرغم مما شهدته من تنظيم كالسدانة، والحجابة، والسقاية، والعمارة، والرفادة، ومن خلال تجمع القبائل العربية فيها أو المجاورة لها، وكذلك من خلال ما كان يتردد عليها من وفود التجارة في مواسم الحج، لم يكن كل هذا ليجعل منها نظامًا سياسيًا، خاضعًا للطاعة قبل مجيء الإسلام.

وكذلك كان الشأن في المدينة قبل الهجرة النبوية.. لم تشهد نظامًا إداريًا وسياسيًا، ولا عرفت بتنظيم تكون السيادة فيه لأمير يطيعه الناس، وفي ذلك يقول محمد العوا: "فقد كانت المدينة تفتقد الوحدة الإدارية في شؤونها كافة؛ فلم توجد فيها أية سلطة إدارية تدل على وجود نظام سياسي من أي نوع، يلتزم به أهلها وينزلون على حكمه".

وجملة القول الذي نريد تأكيده أن مفهوم طاعة ولي الأمر من المفاهيم الجديدة، التي أتى بها الإسلام، لينظم بها بنية دولته، ويوطن بها العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وينظم تلك العلاقة وفق الشريعة الإسلامية، ومبادئها السامية ومقاصدها السامقة.

وهذا مما يؤكد أن فكرة طاعة ولي الأمر لم تكن فكرة مستقرة عند العرب، ولا هي من صميم النظام القبلي، وإنما كانت لزعيم القبيلة سلطة معنوية، ثم من ناحية أخرى ليس لها إطار مرجعي تستند إليه، أو تنظيمي تعتمده، فمن الطبيعي أن يأنف العرب من الرضوخ والطاعة، فجاء الإسلام بنظامه السياسي بوجوب طاعة ولي الأمر، وجعل لها بعدين: عقديًا وسياسيًا.

الأحاديث النبوية الكثيرة في طاعة ولاة الأمور إنما وردت بصيغ متعددة، وأساليب متنوعة؛ فتارة تأتي بصيغة الأمر خطابًا للجماعة "اسمعوا وأطيعوا" وتارة للفرد "فاسمع وأطع"، و"عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك"

ثانيًا: أحاديث الطاعة بناء للسلطة المنظمة

جاء الإسلام بفكرة بناء الدولة والسلطة، وذلك بتنصيب ولاة الأمور، حتى تستقيم أحوال الناس، لأن فكرة السلطة تندرج في الفكر التنظيمي المنضبط والمنظم، لأجل ذلك ألفينا أحاديث تدعو إلى طاعة ولي الأمر.

من ذلك ما رواه مالك في (الموطأ) عن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه قال: "كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعتم". قال ابن عبدالبر: "ففي هذا الحديث دليل على أخذ البيعة للخلفاء على الرعية، وكانت البيعة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، والخلفاء الراشدين، أن يصافحه الذي يبايعه، ويعاقده ‌على ‌السمع ‌والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأن لا ينازع الأمر أهله".

وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم، أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم".

والأحاديث النبوية الكثيرة في طاعة ولاة الأمور إنما وردت بصيغ متعددة، وأساليب متنوعة؛ فتارة تأتي بصيغة الأمر خطابًا للجماعة "اسمعوا وأطيعوا" وتارة للفرد "فاسمع وأطع"، و"عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك"، وتارة أخرى للغائب "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره"، ومرة بصيغة الإخبار "تسمع وتطيع، وإن ضُرب ظهرك، وأخذ مالك"، وطورًا بصيغة النهي "ولا ينزعن يدًا من طاعة"، وتارة أخرى بصيغة الوعيد "من خلع يدًا من طاعة، لقي الله يوم القيامة، ولا حجة له".

إعلان

فلا جرم إذن أن هناك أحاديث تنص على الطاعة، جاءت أحيانًا مطلقة، وأخرى مقيدة. والنظر الأصولي السديد يحمل تلك المطلقة على المقيدة، حتى يستبين من خلال قاعدة حمل المطلق على المقيد مفهوم الطاعة التي يريدها الشرع ويرتضيها، وهي الطاعة في المعروف كما جاءت في الحديث النبوي الشريف: "إنما الطاعة في المعروف".

والحديث – وإن ورد على سبب – إنما يحمل على العموم عملًا بالقاعدة الأصولية "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وألمع ابن حجر إلى فوائده، فقال: "وفي الحديث من الفوائد أن الحكم في حال الغضب ينفذ منه ما لا يخالف الشرع، وأن الغضب يغطي على ذوي العقول. وفيه أن الإيمان بالله ينجي من النار، لقولهم إنما فررنا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من النار، والفرار إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فرار إلى الله، والفرار إلى الله يطلق على الإيمان. قال الله تعالى: ﴿‌ففرُّوا إلى اللَّه إنِّي لكم منه نذيرٌ مبين﴾ [الذاريات: 50].

وفيه أن الأمر المطلق لا يعم الأحوال، لأنه صلى الله عليه وسلم، أمرهم أن يطيعوا الأمير، فحملوا ذلك على عموم الأحوال حتى في حال الغضب وفي حال الأمر بالمعصية، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر بطاعته مقصور على ما كان منه في غير معصية".

الفكر المدخلي اليوم، هو الذي يروج للطاعة العمياء للحكّام، خلافًا لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ فيعمل بذلك على ترسيم استبداد الحكّام بشرعنة الطاعة غير المشروعة، يعني الطاعة ولو كانت في المعصية

وجاء في (طرح التثريب في شرح التقريب) للحافظ زين الدين العراقي: قوله "ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني"، فيه وجوب طاعة ولاة الأمور، وهذا مجمع عليه، وإنما تجب الطاعة حيث لم يأمروا بمعصية.. كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".. وهذا الحديث وما في معناه مقيد لوجوب طاعة الأمراء، والسبب في الأمر بطاعتهم اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم. ويستنتج من ذلك أن من أطاع الأمير فقد أطاع الله، لأنه أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأيُّها الَّذين ءامَنوا ‌أطيعوا ‌اللَّه ‌وأطيعوا ‌الرَّسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء: 59].

وبهذا تكون طاعة ولي الأمر طاعة مقيدة، وليست طاعة مطلقة.. لأجل هذا قلنا بالطاعة المتبصرة الواعية، التي تدل على الرشاد والسداد، فتجعل من المحكوم متيقظًا ومتنبهًا وحارسًا أمينًا، كما تجعل أيضًا من الحاكم حازمًا فطنًا مجدًا.

على أن الفكر المدخلي اليوم، هو الذي يروج للطاعة العمياء للحكام، خلافًا لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ فيعمل بذلك على ترسيم استبداد الحكام بشرعنة الطاعة غير المشروعة، يعني الطاعة ولو كانت في المعصية، والسكوت عن فجورهم وفسقهم وخياناتهم، وتمالئهم مع أعداء الأمة، بناء على ظنهم الفاسد أن ولاة الأمور موكول لهم تقدير المصلحة، علمًا أن تقدير المصلحة يكون تبعًا لما يعود على الأمة بالنفع العام، ويحقق مصالحها الحقيقية لا الموهومة. وبهذا يعتبر ما يروج له المداخلة لا علاقة له بما جاءت به الشريعة في قضية الحكم وطاعة ولاة الأمور.

وإذا كانت الآيات الكريمات والأحاديث النبوية بعضها مرتبط في فهمه بسبب نزوله ووروده، لرفع ما يمكن أن يكتنفه من إشكال وغموض في الفهم، وما يمكن أن يحيط به من التباس في إدراك معانيه، فلا جرم أننا في حاجة إلى قراءة الواقع أيضًا لمزيد من الفهم وتعميقه، والوقوف على طبائع العرب وعاداتهم وأعرافهم، لنخرج بخلاصات مهمة في الفهم والاستنباط. وموضوع طاعة ولي الأمر الذي نحن بصدده يحتاج إلى فهم واقع العرب، وسننهم في الحياة، وما دأبوا عليه في حياتهم.

لا جرم أن جمع تلك الأحاديث والآيات المشكلة هو السداد المنهجي في فهم النصوص المتقابلة والمتعارضة في الظاهر

وحينما أقرر هذا المسلك، فليس من باب القول بتاريخانية النصوص، وارتباطها بزمنها، كما قد يختلج ظنون بعض الناس، وإنما كل ذلك يرجع عندي إلى فهم النصوص ورفع التعارض الذي قد يحصل في بادئ الرأي فيها، من غير تمحيص ولا تحقيق.

والقول بتاريخانية النصوص إبطال لإطلاقيتها واستيعابها لكافة العصور والدهور، والقول بفهم بعض النصوص على ضوء الواقع الذي نزلت أو وردت فيه هو من باب توسيع الفهم، فهو ألصق بسبب النزول أو الورود، وإن كان لا يشبهه، لأن الأول خاص والثاني عام، وإن كان العلماء قد أبدعوا حين قالوا: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".

يبقى القول: إن الأحاديث الواردة في طاعة أولي الأمر، وقبلها الآيات الكريمات، التي قد تكون من باب المشكل، إذ قد يظهر تعارضها في بادي الرأي، هذه لا تفهم على انفرادها، أو كل حديث منها على حدة، فبالإضافة إلى ما سبق تقريره من الرجوع إلى واقع البيئة التي نزل فيها القرآن، وما كان عليه العرب من الأنفة والتمرد والعصيان، فلا جرم أن جمع تلك الأحاديث والآيات المشكلة هو السداد المنهجي في فهم النصوص المتقابلة والمتعارضة في الظاهر.

إعلان

ومن أفضل القواعد المنهجية في هذا الشأن قاعدة ذهبية نفيسة سطرتها يراع الإمام الشاطبي، نص عليها في موافقاته، وهي من الأهمية بمكان، إذ تحل إشكال النصوص المتقابلة وارتباطها بالواقع التنزيلي، وهي راجعة عنده إلى وسطية الشريعة.

الوقوف مع هذه القاعدة الذهبية سيكون موضع مقالة قادمة، نتم فيها بحث هذه المسألة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان