للجاحظ أسلوب مشوق ومميز في سرد القصص والروايات التي يستشهد بها في كتبه الماتعة، مثل "البخلاء" و"الحيوان" و"البرصان والعرجان والعميان" و"البيان والتبيين" وغيرها، بل يكاد يكون في كل ما كتبه، مسانَدًا بالدراية التامة باللغة الجزلة والفصيحة، وقدر كبير من عيون أبيات الشعر العربي.
من هذا الأسلوب الفريد والممتع في الوقت نفسه، كان سرده عن نموذج للضعفاء أو الجبناء الذين يدَّعون القوة والمنعة، وهم في الحقيقة ضعفاء فارغون منها.
كان بالبصرة شيخ من بني نهشل يقال له "عروة بن مرثد"، نزل ببني أخت له في سكة بني مازن، وبنو أخته من قريش، فخرج رجالهم إلى ضياعهم، وذلك في شهر رمضان، وبقيت النساء يصلين في مسجدهن
- الجاحظ
الأقوياء وحدهم – بما يملكون من قوة وسيادة ومنعة – يمكنهم هزيمة الآخرين هزيمة ساحقة، أو تهديدهم وإرهابهم وبث الرعب في قلوبهم، فلا تقوم لهم قائمة بعدها، وبمقدار القوة ذاته لديهم يمكنهم التأثير على الآخرين بالترغيب أو التفاوض فيما تكون محصلته حدوث النتائج المطلوبة؛ أما من لا يمتلك القوة والهيمنة، ويحاول التأثير على الآخرين بالترهيب أو التهديد أو الترغيب، فهو (في تقديري) لا يعدو أن يكون واحدًا من اثنين: إما مختل العقل والبصيرة، وإما أن يكون منافقًا كذابًا رعديدًا!
أستأذن القارئ الكريم لأنقل هذه القصة من تراثنا العربي من كتاب "الحيوان".. ورغم اختلاف الزمان والمكان، فإن واقعنا المعاصر دون شك حافل بهذه النماذج وأشباهها، سواء في الواقع الاجتماعي أو الواقع السياسي، لهذا النوع الذي يلبسه الخوف والجبن من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، ومع ذلك يتحدث كما لو كان قويًا منيعًا.
القصة عن "عروة بن مرثد" شيخ بني نهشل، ذكرها ابن قتيبة في "عيون الأخبار"، وذكرها الجاحظ في كتاب "الحيوان" بما انطوت عليه هذه القصة أو الطرفة من بلاغة وجزالة ورصانة، وهذا جزء مهم؛ لأن كتاب "الحيوان" يُعتبر من أعلى كتب الأدب العربي المعتبرة قيمةً، وتتعدد فيه وجوه الفائدة والمتعة؛ فالكتاب حجة وإمتاع في اللغة والجزالة والفصاحة، وهو أيضًا بالقدر نفسه ممتع في طريقة استقصاء المعلومات، وسرد كل ما يتعلق بالموضوع الذي يتحدث فيه، كلبًا كان أم ذئبًا، وسرد النوادر والحيل.
وهو أسلوب تفرد به الجاحظ، فهو يذكر النوادر وما يجوز من ذلك في باب الهزل، وما يجوز منها في باب الجد، ليجعل الهزل مستراحًا والراحة جمامًا.
قال الجاحظ: كان بالبصرة شيخ من بني نهشل يقال له "عروة بن مرثد"، نزل ببني أخت له في سكة بني مازن، وبنو أخته من قريش، فخرج رجالهم إلى ضياعهم، وذلك في شهر رمضان، وبقيت النساء يصلين في مسجدهن، فلم يبقَ في الدار إلا كلب يعتسّ، فرأى بيتًا فدخل وانصفق الباب، فسمع الحركة بعض الإماء، فظننّ أن لصًا دخل الدار، فذهبت إحداهن إلى أبي الأعز، وليس في الحي رجل غيره، فأخبرته، فقال أبو الأعز: ما يبتغي اللص منا؟
لما طال وقوفه جاءت جارية من إماء الحي فقالت: أعرابي مجنون!! والله ما أرى في البيت شيئًا!! ودفعت الباب فخرج الكلب شدًّا وحاد عنه أبو الأعز مستلقيًا
ثم أخذ عصاه وجاء حتى وقف على باب البيت فقال: إيه يا ملأمان (يعني يا لئيم)!. أما والله إنك بي لعارف، وإني بك أيضًا لعارف، فهل أنت إلا من لصوص بني مازن، شربت حامضًا خبيثًا، حتى إذا دارت الأقداح في رأسك منّتك نفسك الأماني، وقلت: دور بني عمرو والرجال خلوف والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهن؟ سوءة والله.. ما يفعل هذا الأحرار، لبئس والله ما منتك نفسك، فاخرج وإلا دخلت عليك فصرمتك مني العقوبة، لأيم الله لتخرجن أو لاهتفن هتفة مشؤومة عليك يلتقي فيها الحيان: عمرو وحنظلة، ويصير أمرك إلى تباب، ويجيء سعد بعدد الحصى، ويسيل عليك الرجال من ها هنا وها هنا، ولئن فعلت لتكونن أشام مولود في بني تميم.
فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين وقال: اخرج يا بُني وأنت مستور، إني والله ما أراك تعرفني، ولو عرفتني لقد قنعت بقولي واطمأننت إليّ.. أنا "عروة بن مرثد" أبو الأعز المرثدي، وأنا خال القوم وجلدة ما بين أعينهم، لا يعصونني في أمر، وأنا لك بالذمة كفيل خفير، أصيرك بين شحمة أذني وعاتقي لا تضار، فاخرج فأنت في ذمتي وإلا فإن عندي قوصرتين (القوصرة: وعاء من قصب يُجعل فيه التمر)، إحداهما إلى ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما فانتبذها حلالًا من الله، تعالى، ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
وكان الكلب إذا سمع الكلام أطرق، وإذا سكت وثب يريغ المخرج، فتهافت الإعرابي – أي تساقط – ثم قال: يا ألأم الناس وأوضعهم، لا أرى إلا أني لك الليلة في واد وأنت في آخر، وإذا قلت لك السوداء والبيضاء تسكت وتطرق، فإذا سكت عنك تريغ المخرج؟ والله لتخرجن بالعفو عنك أو لألجنّ عليك البيت بالعقوبة.
فلما طال وقوفه جاءت جارية من إماء الحي فقالت: أعرابي مجنون!! والله ما أرى في البيت شيئًا!! ودفعت الباب فخرج الكلب شدًّا وحاد عنه أبو الأعز مستلقيًا، وقال: الحمد لله الذي مسخك كلبًا وكفاني منك حربًا!! ثم قال: تالله ما رأيت كالليلة.. ما أراه إلا كلبًا!! أما والله لو علمت بحاله لولجت عليه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.