طوى "الجزيرة" حتى جاءني "خبر عاجل"، فزعت فيه بآمالي إلى الكذب.. وفي "الخلفية الذهنية" للخبر كان صوت هاتف داخلي يردد: توفيت "الأمجاد" بعد أبي إبراهيم!
على كثرة فرائد الأبيات التي اقتحمت علي تلافيف الذاكرة، وحضرت في ذهني، كانت رائية أبي تمام الأحضر من مطلعها، الذي يناسب وقع "الخبر العاجل"، بما تحته من "جلال الخطب" و"فداحة الأمر"، ليكون برد العزاء في استشعار شرف الميتة
مرثاة.. تفرقت أبياتها بين القصائد!
لم أتلقَّ الخبر؛ بل لقيته، وحين تراءى لي مكتوبًا على شريط العاجل الأحمر، حضر في ذهني شطر بيت الشاعر الموريتاني محمد ولد الطلبه من قصيدته العينية: "بفيك الترب من ناع"، فقلت في نفسي: أيها النعي كن إشاعة لا "خبرًا"!. ثم خطر ببالي بيت الحصين بن حمام:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا .. ولكن على أقــدامنا تقطـر الـدمـا
ثم انثالت على ذهني شواهد شعرية من غرر الأبيات السائرة، من ديوان العرب في الجاهلية والإسلام.. فعجبت لشجر الخابور؛ ماله مورقًا، كأنه لم يجزع لاستشهاد أبي إبراهيم؟!
وعلى كثرة فرائد الأبيات التي اقتحمت علي تلافيف الذاكرة، وحضرت في ذهني، كانت رائية أبي تمام الأحضر من مطلعها، الذي يناسب وقع "الخبر العاجل"، بما تحته من "جلال الخطب" و"فداحة الأمر"، ليكون برد العزاء في استشعار شرف الميتة، وإن مما يهون الوجد أن الفقيد كان حقًا وصدقًا "فتى مات بين الطعن والضرب ميتة تقوم مقام النصر"، وكيف لا وقد "أثبت في مستنقع الموت رجله، وقال لها من تحت أخمصك الحشر"؟!..
ولو مضيت أورد الأبيات التي تصدق على يحيى من هذه المرثاة المعجبة، لوجدتني قد أوردتها كلها؛ إذ كل بيت فيها – على حدة – "بيت القصيد"، ولعمري "لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده، لعهدي به ممن يحب له الدهر"، فلا نامت أعين الجبناء ولا قرت مضاجع الشامتين!
وكم في سيرة القائد الشهيد من تجليات الأسطورة والمفارقة.. على أن في فقده "مجالًا لدمع المقلة المترقرق"!
بين انكشاف محاولة الخروج الذاتية ونجاح عملية الإخراج الغيرية، تجلى في "القصة الواقعية" تنازع المرارة والحلاوة، وتعاقب الفجأة والتدرج، ليكون ملمحًا من ملامح التدبير القدري والسر الغيبي، في مسيرة السنوار
إبر الشوك وبتلات القرنفل
أودع الشهيد المودع تضاعيف روايته "الشوك والقرنفل" سردًا ملحميًا، خرج فيه من ضيق الذاتية إلى سعة الغيرية، ومن خصوص "السيرة الشخصية" إلى عموم القضية الوطنية، مجردًا من تجربته انعكاسًا للحالة الفلسطينية بأبعادها النضالية والفدائية، ولم يكن اعتباطًا أن تخرج سطور الرواية من رحم الزنزانة – رغم أنف السجان – كما لم يكن عاديًا أن يخرج الكاتب من زنزانة التأليف دون أن يقضي من محكومية المؤبدات الأربعة أكثر من 23 عامًا من أصل 426 سنة!
وقبل أن تخرجه صفقة وفاء الأحرار، وتفرض المقاومة شرط إدراج اسمه على قائمة الأسرى المحررين مقابل إطلاق سراح الجندي "الإسرائيلي" المختطف جلعاد شاليط، حاول السنوار الخروج – ذاتيًا – من خلال اختراق جدران السجن مرتين، بحفر ثقب في زنزانته داخل سجن المجدل، باستخدام سلك سميك ومسمار حديد ضئيل، حتى إذا اخترق "عظم" الجدار الخرساني، ولم يبقَ أمامه إلا "قشرة" شفيفة من "جلدة" الحائط انهار محيط الثقب وانكشفت المحاولة، التي شفعت بثانية – في سجن الرملة – تمكن خلالها السنوار من قص قضبان الشباك الحديدي، لتكون نقطة نهاية المحاولة اكتشاف الحبل الطويل المدلى، قبل استخدامه في عملية الهروب الوشيك!
اعتاد الناس رفع أكف الضراعة طلبًا لإجابة الدعاء، دون التبويب على المشاركة في تحققه، ودون رجاء حصوله على يد الداعي نفسه، وفي ذلك التبويب وتلك المشاركة معنى عميق وإيحاء بديع!
المؤلف القائد
وبين انكشاف محاولة الخروج الذاتية ونجاح عملية الإخراج الغيرية، تجلى في "القصة الواقعية" تنازع المرارة والحلاوة، وتعاقب الفجأة والتدرج، ليكون ملمحًا من ملامح التدبير القدري والسر الغيبي، في مسيرة السنوار، التي هي انعكاس لسيرة الكفاح الفلسطيني في أدق تفاصيل العمل الفدائي والإعداد التنفيذي، مصداقًا لمسطور رواية "الشوك والقرنفل" وجوِّها السردي العام، وانسجامًا مع مضمونها الذي احتوى إيماءات ضمنية، وتبويبات تصريحية، دققت المقاصد وحررت المفاهيم؛ لتسمو بالعمل النضالي والحالة الفدائية عن هامشية حظ النفس ومحدودية "رد الفعل"، وتربط العمل المقاوم بسياق الواجب المقدس والهم الرسالي!
ومن هنا برزت ثنائية المؤلف والقائد في شخصية السنوار، الذي كان العزل الانفرادي "حكمًا"، أصدره الاحتلال في حقه، لكنه لم يكن "قدرًا" في مشواره، من أجل ذلك كان له حضور تجاوز التمثيل إلى القيادية، خلال مفاوضة إدارة سجون الاحتلال باسم الأسرى، وفي المحاماة عن حق الأسير، وتأطير "الحركة الأسيرة"!
وقد كان من ثمرات كسر "الانفرادية"، تهريب نسخ الرواية التي كتبها "المؤلف – القائد"، بمساعدة زملاء الأسر، ليسبق "تحرير" الكتاب تحرير الكاتب، وللغيب سرّه في نجاح ذلك التهريب، وفشل محاولة الهروب!
ولم تقف ملامح الهمة وتقاسيم الدقة عند المحطتين العسكرية والسياسية في حياة السنوار؛ بل تمشت في أقواله وتصريحاته واستقرت في دعائه، الذي كان منه: "اللهم اكسر بنا شوكتهم.. نكس بنا رايتهم.. أذل بنا قادتهم.. أزل بنا دولتهم"، ووجه علو الهمة في هذا الدعاء مكتنز في عبارة "بنا"، التي تنطوي على معنيَي الاستعداد و"الجاهزية" للتنفيذ.
وقد اعتاد الناس رفع أكف الضراعة طلبًا لإجابة الدعاء، دون التبويب على المشاركة في تحققه، ودون رجاء حصوله على يد الداعي نفسه، وفي ذلك التبويب وتلك المشاركة معنى عميق وإيحاء بديع!
وعلى ذكر الدعاء؛ فقد سأل يحيى السنوار ربه الشهادة، واستعاذ به من "الميتة العادية".. وقد أظهرت المقاطع المصورة التي سربها الاحتلال تحقُّق رجائه، وإجابة دعوته، وقد رفعوه بذلك إلى مقام "المعجزة" ومنزلة "الأسطورة"، وفي ذلك "علو في الممات" مضاف إلى "علو في الحياة"، وقد تمثل فيه – وهو يهوي بالعصا على المسيرة الحربية، بعدما جرد بندقيته وشهر قذيفته – قول الشاعر:
ومـا مات حتى مات مضـرب سـيـفـه .. من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
فسلام على يحيى يوم ولد، ويوم "هندس"، ويوم اقتحم، وسلام عليه يوم تأبط سلاحه، وحمل روحه على راحته.. وسلام عليه في الخالدين!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.