أكتوبر/ تشرين الأول شهر قطاف ثمار الشجرة المباركة؛ التي أضاء زيتها في قلوب أبطال غزة نورًا من الشجاعة والإقدام، وأمّا أيديهم فقد كانت على موعدٍ آخر مع القطاف.
هو قطافٌ يهدم السد الذي تراكمت خلف جدرانه آهات الحصار الظالم، وثارات أحمد ياسين والرنتيسي وآلاف الشهداء، ووثبات العزم في الدفاع عن باحات الأقصى الشريف، ونداءات المسجونين خلف قضبان الطغيان، وأشواق الحرية، وآمال التحرير؛ فانكسر السد وتلاطمت أمواج الطوفان، واشتعل غصن الزيتون نارًا تحرق الأفئدة التي مُلِئت غرورًا واستكبارًا في الأرض، وذاب هيكل الملح المزعوم في أخيلتهم الواهنة، ولم تنم أعين الجبناء؛ لأنّ خيل أحفاد خالد داست على الجيش الذي زُعِمَ أنّه لا يقهر.
كان أهل غزة مدرسةً في هذه المفاهيم الثلاثة، وستكون أنقاض بيوتهم المهدمة اللبنات الأولى لبناء صرح تحرير الوطن العزيز.. هذا هو لسان حالهم ومقالهم وأفعالهم
والعجيب أنّ هذا الطوفان لم تهدأ بعد – وقد مرّ عامٌ بتمامه – قساوةُ أيامه ولياله، ولم يظهر جبل الجودي الذي يمكن أن تستقر عليه مراكب إيقاف الحرب، ولكن – بدون أدنى شك – سترفرف على قمته راية العلم الفلسطيني الشامخ الأبي؛ لأنّها راية الحق والتحرير.
ومرّت عربة الزيتون الفلسطيني خاويةً من غير بضاعة؛ ولكنّها عادت وهي تحمل أثمانًا من أوراق التفاوض، التي يمكن أن تكسّر قضبان السجون الإسرائيلية.
وفي الوقت ذاته انكفأ صوت البلابل عن التغريد في غلاف غزة، واستُبدلت بحناجرها صفارات الإنذار، التي تقول للمحتل الغاصب عند ترجمتها في قواميس تحرير الأوطان: "اقترب وقت رحيلك؛ فالأرض ليست أرضك، ومهما زيّن لك غرورك أنّ قوتك العسكرية ستحميك من وقوع هذه الحقيقة، فإنّ وراءك جنود الله سيزيلون غشاوة هذا الغرور عن عينيك، حتى ترى حقيقة ما ظننت أنّه مستحيلٌ ماثلًا أمام عينيك".
وانتفض كيان الجبن والإجرام على هول الصدمة؛ يحاول أن يستعيد درعه المسلوب، وأن يوقف نزيف جرح كبريائه؛ ولكن هيهات هيهات، فالضربة كانت مسددة بتوفيق الله، إذ {وما رميت إذ رميت ولكنَّ الله رمى}.
وتوالت قوافل الشهداء في غزة ترتقي إلى منازل المجد والشرف، وتسطر بدمائها الزاكية مبتدأ جملة النصر والتحرير، فلا حرية بدون أثمان باهظة، ولا نصر بدون تضحيات عزيزة، وأمّا خبرها فقد جاء مرفوعًا بالصبر والثبات والصمود، فكان أهل غزة مدرسةً في هذه المفاهيم الثلاثة، وستكون أنقاض بيوتهم المهدمة اللبنات الأولى لبناء صرح تحرير الوطن العزيز.. هذا هو لسان حالهم ومقالهم وأفعالهم.
من غزة العزّة انطلق طوفان الأقصى، بعد أن عاثت الصهيونية في الأرض فسادًا وظلمًا، وبعد أن استحكمت حلقات الإجرام ضد الشعب الفلسطيني، وبعد أن تمادى المحتلون في تدنيس أرض الأقصى الشريف، وبعد أن زادت ظلمة سجونهم بممارسة القمع ضد الفلسطينيين فيها؛ فانهمرت السماء بالرشقات النارية، وأخرجت الأرض رجالها، وهاج بحر غزة ببراكين الغضب؛ فكانت الضربة مؤلمة للعدو الغاصب، وتتابعت الضربات، وانطلق سهم الموت (الياسين) يحصد جنوده وآلياته العسكرية.
في قلب القطاع ما زالت النبضات تخفق بـ (الله أكبر) فينصعق قلب المحتل ويرتعب، وهناك في رفح تحصد الكمائن جنده وآلياته
ودارت الأرض دورتها، ومرَّ عامٌ كاملٌ لم يُغَث فيه الناس؛ ولكنّ مكاسب الطوفان سجلت في بورصة الكفاح الفلسطيني أعلى النقاط، بينما تلاشت أحلام السلام مع أعداء السلام، وزاغت الأبصار عن مشروع التطبيع، وكان فحم كولومبيا محرّمًا على معامل الكيان الصهيوني، وكانت مرافعات جنوب أفريقيا القانونية ضربةً موجعةً لمن اعتبروا أنفسهم دومًا فوق القانون الدولي، والأعجب أن يقف الجيل الجديد المثقف في أكبر دولة داعمة للصهيونية وكيانها ضد هذا الدعم، ناصبين خيامهم على أبواب أرقى الجامعات العالمية، إنّه الطوفان، وما أدراك ما الطوفان؟!
هناك حيث (المواصي) توصي شبابها بالبسالة والصمود، وحيث جبال الثبات البشري لا تهتز في (جباليا)، وحيث (خان يونس) تسطر في سجلات التاريخ رمزية العمل المقاوم، ولم تنكسر الأغصان في (حي الزيتون)؛ ولكنها اشتعلت في وجه المحتل المجرم، وصعدت أقدام المقاومين على سلالم (حي الدرج) بخطى واثقةٍ نحو النصر المأمول، وراية العلم الفلسطيني ترفرف في سماء (حي البريج)، وها هي السلال في (حي التفاح) خاوية إلا من السكاكين التي قطعت أوردة الطغيان.
وفي قلب القطاع (غزة) ما زالت النبضات تخفق بـ (الله أكبر) فينصعق قلب العدو ويرتعب، وهناك في رفح تحصد الكمائن جند العدو وآلياته، وفي (النصيرات) رغم جراحها ابتسامة النصر تغيظ العدو وتدحره، ولم يتساقط الرطب جنيًّا في (دير البلح)؛ فنخيلها لم يثمر هذا الموسم.
وأينما قلّبت وجهك في خارطة القطاع فلن تجد إلا أمًّا صابرة محتسبة، أو أطفالًا رضعوا لبن العزة والمقاومة يصنعون فرحهم وسط الركام، أو مقاومًا يحمل روحه على كفه يلقيها في وجه الميركافا، ويحمل في الأخرى الشواظ الذي يصنع معنى الحياة الكريمة بتدمير آلة الموت الهمجية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.