وصلت إلى بواتييه في فرنسا، وحيدًا بعد رحلة من الألم والفقدان، تركت خلفي زوجتي وولدي وكل من أحببت، كأنني اقتُلِعتُ من جذوري ونُثرت في أرض جديدة، غريبة عني.
كنت لاجئًا في تركيا، أعيش بين جدران لا تعرفني ولا تلامس جروحي.. كنت هناك، لكن عقلي وقلبي ظلا دائمًا في سوريا، حيث بدأت القصة، وحيث ما زالت جراحنا تنزف.
غربة اليوم ليست جديدة عليّ، هي امتدادٌ لغربة دامت سنوات، غربة فرضها علينا نظام الأسد المستبد، لم يترك لنا خيارًا سوى الرحيل أو الموت.. قسوة الظلم أجبرتنا على الفرار، كل واحد منا يحمل ألمًا مختلفًا، وكل خطوة نخطوها خارج الوطن تزيد من ثقل النقمة على هذا النظام الذي سرق حياتنا وأماننا وما نملكه من ذكريات.
اليوم، وأنا في بواتييه، أشعر بفقدان كل تلك الذكريات التي تركتها خلفي، وكأنني أعيش غربة مزدوجة؛ فقدت وطني أولًا، ثم فقدت وطنًا مؤقتًا
في تركيا، رغم الغربة عن الوطن، كان هناك شيء من الألفة.. تعلمت أن الغربة ليست فقط بعدًا عن المكان، كانت غربة لكنها تتخفف قليلًا حين نجد في دروبنا من يشاركنا الألم ذاته.. من نتقاسم معهم الهموم والآمال، الثورة والنضال، أناس أكلنا معهم رغيف الخبز ثم صرخنا بملء أصواتنا: "الله أكبر.. حرية"، و"عاشت سوريا ويسقط النظام".
في شوارع تركيا وأحيائها كانت لنا ذكريات، لحظات من الضحك بين الألم، لحظات من الأمل رغم الغياب! بعض أصحابي هناك كالإخوة، رغم أننا لم نعرف بعضنا قبل الثورة.. كل واحد منا يحمل قصة مختلفة، لكن قصصنا توحدت في تلك البلاد، نحلم بوطن نعود إليه، ونحلم بمستقبل أفضل.
اليوم، وأنا في بواتييه، أشعر بفقدان كل تلك الذكريات التي تركتها خلفي، وكأنني أعيش غربة مزدوجة؛ فقدت وطني أولًا، ثم فقدت وطنًا مؤقتًا، ثم فقدت أصحاب الطريق ورفاق الثورة، والأحاديث التي كانت تخفف عنا ثقل الأيام.. أفتقد ذلك الشعور بالانتماء، الذي حاولنا بناءه جاهدين رغم أننا كنا غرباء.
لكني رغم كل شيء سأحاول أن أجد في هذه الغربة قوة، وفي هذا الفقد عزيمة، علّني أتمكن يومًا ما من العودة، فالرحلة لم تنتهِ والطريق طويل
أشعر بالوحدة الآن أكثر من أي وقت مضى.. فرنسا مكان جميل، بواتييه مدينة هادئة، لكن ما فائدة الجمال إن لم يكن بوجود من نحب؟ ما فائدة كل هذا السلام الخارجي إن كانت الحرب لا تزال تشتعل داخلي؟ نقمتي على نظام الأسد ليس فقط لأنه أبعدني عن وطني، بل لأنه سرق مني لحظات كان من المفترض أن أعيشها مع زوجتي وولدي.. سرق مني دفء العائلة، واستبدل به برودة المنفى.
أحاول اليوم أن أجد معنى لكل هذا، أن أجد طريقة للتعايش مع الغربة والفقد، أبحث عن أمل في هذه الأرض البعيدة، عن فرصة لبناء حياة جديدة رغم الألم.. لكني لا أستطيع تجاهل أنني هنا بسبب ظلم طال أمده.. أفكر فيمن خلفي من الأهل والأصحاب، في إسماعيل وأمه كل لحظة، كيف يعيشون الآن؟ وهل نتشارك جميعنا ذات الأحلام الممزقة؟
الغربة ليست فقط عن المكان، بل عن الروح أيضًا.. أشعر أنني غريب عن نفسي، عن ذلك الشخص الذي كنت أعرفه قبل كل هذا. لكني رغم كل شيء سأحاول أن أجد في هذه الغربة قوة، وفي هذا الفقد عزيمة، علّني أتمكن يومًا ما من العودة، فالرحلة لم تنتهِ بعد والطريق طويل.. ولكن كل خطوة تقرّبني من تلك اللحظة التي سأجد فيها السلام، يوم أن ندخل سوريا نفرش أرضها بالياسمين، ونرفع رايات الحرية في دمشق مهللين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.