رحلتنا في هذه الحياة وإن طالت قصيرة، لا تقل: كم عاش؟ بل قل: كيف عاش؟. فالكيف أولى وأهم من الكم.
عليه، يجدر بنا الالتفات إلى جواهر أنفسنا، فرب موقف صغير يتجلى فيه إشعاع الشخصية، فيُحفر إلى الأبد على جبين التاريخ.. فحاتم من قبيلة طي، بسخائه ومواقفه الرائعة وضع نفسه في الخالدين، فكيف تصنع إذا تعكر صفو الحياة على من هم حولك؟ أستقتفي دروب حاتم، أم لن يعنيك ما يعني بني جلدتك ومن هم في فلكك؟
أنا شخصيًا أعرف طلابًا لا يفطرون في مدارسهم وقت الفسح، وطلابًا يتحاشون نزول الفسحة لأنهم لا يمتلكون شيئًا
يقول الشاعر العراقي ابن يوسف الأزري:
عش في زمانك ما استطعت نبيلًا .. واســتبقِ ذكــرك للــرواة جميــلا
فأي نبل ستصنعه في داخلك؟ وأي مروية ستتركها لرواة حكايتك؟
يُحكى أن طالبة متفوقة تلتزم بحضور مدرستها أثارت شكوك عاملة النظافة (الفرّاشة) في المدرسة، حيث وجدتها تدخل بحقيبة فارغة، وتخرج بحقيبة ممتلئة.. ازدادت شكوك هذه العاملة حين تكرر هذا الموقف من الطالبة، وأبلغت المديرة عن هذه الظاهرة المستغربة، فضبطتها المديرة وحقيبتها ممتلئة كالمعتاد، وأجبرتها على فتحها. توسلت الطالبة للمديرة أن تفتحها بعيدًا عن أعين زميلاتها، فلما فتحتها وجدت بداخلها بقايا خبز وبعض مخلفات طعام الطالبات!!
البعض يرى أن هذه القصص محض خيال، لكن الواقع المرير يدهشك ويفصح عن الكثير، فكم من أسرة معدمة متسترة عن العيون!. أنا شخصيًا أعرف طلابًا لا يفطرون في مدارسهم وقت الفسح، وطلابًا يتحاشون نزول الفسحة لأنهم لا يمتلكون شيئًا.. صحيح أن أيدي الإحسان لا تعدم، إلا أن هذه الظاهرة منتشرة في كل زمان ومكان.
وقفت أمام طلابي أحدثهم عن أهمية حفظ النعمة، بعد منظر لاحظته، إذ وجدت فطيرة طائرة محلقة في السماء خارج أسوار المدرسة، لعلها طريقة احتجاج حين كانت الفطيرة دون جبن
أعجبني بائع خبز، وضع لافتة نبيلة كتب فيها: "الخبز مجانًا لمن لا يمتلك الثمن".. ما أجمل هذه الروح! وما أغفل أصحاب الثراء الذين لا ينظرون لضعف الناس! بعض المسؤولين لا يعرفون حجم المعاناة التي يتكبدها الفقير. فمثلًا: أيام الدراسة الطويلة تخلق لأرباب الأسر الفقيرة أزمة حقيقية، فهل تقمصنا أحوال أضعف البشر، قبل اتخاذ القرارات الصارمة؟
بعض الأسر لا يمتلك أربابها سيارة، ولو امتلكوا ستكون هذه السيارة أزمة لهم، لكونها تحتاج لمصروف وكأن فردًا جديدًا يسكن معهم، فكيف يذهب الأطفال إلى مدارسهم؟ هل يصدق المسؤول المحترم أن بعض الأطفال يقطعون طرقات طويلة تحت أشعة الشمس، وهم يحملون حقائب مثقلة بالعلوم والمعارف؟!
بعض الأطفال اهترأت ملابسهم، وبعضهم لا يمتلكون إلا ثوبًا يتيمًا، وبعضهم يحتاجون لمعونة مسعفة حتى يكونوا كبقية البشر.. كم من أسرة ليس لها معيل إلا أرملة لا تملك إلا حفنة نقود قليلة، تتحيّر هذه المرأة أيما حيرة، أين تضع هذه الحفنة البسيطة؛ في المأكل أم في الملبس أم في لوازم ضرورية أخرى!
الظرف الزمني الآن مختلف، والإنسانية تحتم علينا الإلفات والالتفات، فكم من غني وحوله أسر تتضور جوعًا!
وقفت أمام طلابي أحدثهم عن أهمية حفظ النعمة، بعد منظر لاحظته، إذ وجدت فطيرة طائرة محلقة في السماء خارج أسوار المدرسة، لعلها طريقة احتجاج حين كانت الفطيرة دون جبن، فقلت في هدوء معلقًا: "عزيزي الطالب.. احترم النعمة، فكم من أسرة لا تجد قطعة خبز!".. الخطاب ليس لهؤلاء الصغار الذين يبددون نصف ريال، بل للأسر المتخمة التي ترمي الكثير من النعم في براميل المزابل وحاويات القمامة.
بعض الأسر المتوسطة كانت ترتع في النعم وتنفق دون حساب، وبين عشية وضحاها حلّت موجة الغلاء وارتفعت الأسعار!. والآن، هذه الأسر تضع الكوابح على محافظها مجبرة
البعض يقيم مأدبة زواج فيبدد بترف من أجل التفاخر والسمعة، كل العقلاء يقولون: "هذا حرام، فلماذا السرف؟!"، بعض العقول يلزمها الحَجْر على أموالها لتصرفها بطريقة سوية، الموازنة مهمة والتعاون والإحسان في غاية النبل، فلماذا تضيع أسر وتفترش التراب، في حين أننا نجد أسرة بطرت أنعم الله؟!
أليست الدنيا دوارة؟ فلماذا لا يتعظ المسرف بمن أسرف وافتقر؟ فكم من ثريّ أضحى فقيرًا يتسول!. لا للشماتة، ولكن المقاعد الدوارة تدور، ولربما أسقط الكرسي الدوار صاحبه، كما روى لي أبي، فهل فكّر الثري في دورة الحياة في الطبيعة؟. "اخشوشنوا فانّ النعم لا تدوم".. هل أتاك حديث القرية التي أضاعت النعم؟ جازاها الله بلباس الجوع والخوف سبع سنين حتى أكلوا العظام المُحرقة، والجيف والكلاب الميتة، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع!
قد لا يتعظ البعض بالأقاصيص الغابرة، فلنتلمس الواقع الحالي.. كأبسط مثال، بعض الأسر المتوسطة كانت ترتع في النعم وتنفق دون حساب، وبين عشية وضحاها حلّت موجة الغلاء وارتفعت الأسعار!. والآن، هذه الأسر تضع الكوابح على محافظها مجبرة.. اختلف الظرف، وهي لقطة للتفكر، فمتى نُفيق؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.