الحرب تترك جروحًا عميقة لا تندمل بسهولة، وتترك ندوبًا في النفوس لا تمحى. ومع ذلك، في خضم هذا الدمار، تظهر أحيانًا قصص عن الشجاعة والإيثار، تبعث الأمل في النفوس.. قصة أحمد ومحمد نعيم السويركي مثال حي على ذلك.
في أحد الأزقة الضيقة في حي الشجاعية، حيث كانت أصوات الانفجارات تعلو على كل شيء، حتى صرخات الأطفال لم تعد تُسمع، قرر الشقيقان التوأمان أحمد ومحمد نعيم السويركي أن يخاطرا بحياتيهما من أجل عائلتهما، في رحلة محفوفة بالمخاطر؛ بحثًا عن بعض الدقيق!. انفصل الشقيقان أحدهما عن الآخر بسبب القصف العنيف.. أتجمعهما الأقدار مرة أخرى، أم إن الحرب ستفصلهما إلى الأبد؟
نظر أحمد إلى محمد، وقال بصوت مرتعش: "انتظر هنا مع مصعب عند رأس الشارع، سأذهب لجلب الطحين بسرعة.. إذا حدث شيء فاهربا، وأنا سأجد طريقي"
أحمد ومحمد، شقيقان توأمان في السادسة والعشرين من العمر، يمسكان بأيدي بعضهما بإحكام، وكأنهما يتشبثان بآخر قشة قبل الغرق؛ الشظايا تتطاير حولهما كأغصان مكسرة، وأصوات الانفجارات تدوي في آذانهما كأنها صرخات الموت. كانا قد قررا التوجه إلى بيتهما القديم في حي الشجاعية، ذلك الحي الذي كان يُعتبر يومًا ما ملاذًا آمنًا، ليجلبا بعض الدقيق لأمهما وأخواتهما.
محمد، الذي كان دائمًا حريصًا وحذرًا، لم يكن يتخيل أن يقترح مثل هذه الرحلة الخطرة!. ولكن رغبته في إسعاد أسرته دفعت به إلى المخاطرة.. الآن، وهما يقفان في قلب هذا الجحيم، يتذكران ابتسامة أمهما عندما أخبراها بجلب الدقيق، خصوصًا أن العائلة لم تتذوق الخبز منذ شهور؛ بسبب الجوع الذي حل بأهل الشمال في ظل حرب الإبادة الجماعية.
يلتفت أحمد إلى شقيقه، عيناه تتسعان من الخوف، لكنه يحاول أن يبتسم، همس أحمد وصوته يرتجف قليلًا: "لا تخف، سنصل قريبًا".. في تلك اللحظة، شعرا وكأنهما وحيدان في عالم مليء بالدمار.
وصل أحمد ومحمد برفقة صديقهما مصعب إلى حي الشجاعية، كانت الأنقاض تملأ الشوارع، ورائحة البارود تتصاعد في الهواء. كان كل شيء محاطًا بسكون ثقيل، يتخلله بين الفينة والأخرى صدى الانفجارات البعيدة التي كانت تقترب تدريجيًّا.. نظر أحمد إلى محمد، وقال بصوت مرتعش: "انتظر هنا مع مصعب عند رأس الشارع، سأذهب لجلب الطحين بسرعة.. إذا حدث شيء فاهربا، وأنا سأجد طريقي".
قبل أن يتمكنوا من الابتعاد، أصر محمد على تأمين بضاعة صديقه، ونظر إلى أخيه وقال: "يجب أن أذهب إلى محل صديقي، كي أؤمن بضاعته، لا أستطيع تركها عرضة للنهب"!
رغم محاولة محمد التظاهر بالشجاعة، كان قلبه ينبض بسرعة، لم يكن لديه خيار، لذا وافق على مضض، لكن فكرة انفصاله عن أحمد في وسط هذا الجحيم كانت بمثابة كابوس. اتجه أحمد بخطوات سريعة نحو البيت القديم، بينما وقف محمد بجانب صديقه مصعب، الذي كان يراقب السماء بعينين مليئتين بالقلق.
في تلك الأثناء اشتد القصف، كان صوت الانفجارات يدوي كصدى رعد بعيد، تزامن مع ارتجاج الأرض تحت أقدامهما. ومع كل ضربة، كان الدهشة والخوف يعصفان في نفسيهما، ما جعلهما يتراجعان قليلًا.
نظر مصعب إلى محمد، وقال بصوت مرتجف: "علينا أن نذهب الآن! أحمد سيتدبر أمره". لكن محمد، رغم خوفه، رفض.. "لن أتركه، سنخرج معًا كما جئنا."
مرّت دقائق بدت كالساعات قبل أن يظهر أحمد في نهاية الطريق، يحمل كيس الدقيق على ظهره. كان مغطى بالغبار، وعيناه تمتلئان بالعزم. "لقد جلبت الطحين! هيا نغادر!". لكن، لم تكد تلك الكلمات تخرج من فمه حتى دوّى انفجار هائل قريب.
بينما كان التراب يتساقط من الجدران المدمرة حولهم، صرخ مصعب "أسرعوا!".. لكن، قبل أن يتمكنوا من الابتعاد، أصر محمد على تأمين بضاعة صديقه، ونظر إلى أخيه وقال: "يجب أن أذهب إلى محل صديقي، كي أؤمن بضاعته، لا أستطيع تركها عرضة للنهب"! حاول أحمد أن يقنعه بالعدول عن الفكرة: "الوقت ليس مناسبًا يا محمد! فالوضع يزداد سوءًا". لكن إصرار محمد كان أكبر من الخوف، كان يعتبر صديقه كأخ له، ولم يستطع التخلي عنه في هذه اللحظة الحرجة.
الهدوء المميت الذي تخلل القصف جعل كل حركة تبدو واضحة في المكان المهجور، كان أحمد ومصعب يسمعان بوضوح خطوات جنود جيش الاحتلال الصهيوني وهم يجوبون الشوارع بحثًا عن أي ناجٍ
عملا بسرعة على تأمين بضاعة صديق محمد، وسط ضجيج القذائف التي كانت تتساقط حولهما، الوقت كان يمضي بسرعة كئيبة، وأصوات القصف تتزايد في شدتها. فجأة، سقطت قذيفة بالقرب منهما، ليصدر عنها دخان أسود كثيف غطى المكان، لم يعد التوأمان قادرين على أن يرى أحدهما الآخر، وبات الدخان حاجزًا بينهما.. تبادل أحمد ومحمد النداءات، لكن أصوات الانفجارات غطت على صرخاتهما.
وسط هذه الفوضى، سقطت قذيفة أخرى، وأطلق انفجارها شظايا حادة في كل اتجاه، إحدى الشظايا اخترقت جسد محمد، أصابت قلبه مباشرة وأردته شهيدًا على الفور.. لحظة سريعة ومفجعة، لم يرَ فيها أحمد ما حدث لأخيه، ولم يدرك أن محمد قد فارق الحياة.
في ظل الدخان والدمار، وجد أحمد نفسه منفصلًا عن شقيقه.. اضطر للهرب، قلبه مثقل بالخوف والحزن، ودون أن يعرف مصير محمد عاد إلى البيت القديم، حيث كان مصعب بانتظاره، وبالكاد تمكن الاثنان من الاختباء خلال اليومين التاليين، عاشا على حافة اليأس، لم يتذوقا الطعام، وكان الماء شحيحًا، لدرجة أنهما تقاسما قطرات الماء المتبقية، النوم كان شبه مستحيل وسط أصوات القصف المستمرة التي لم تنقطع لحظة، وكأنها تُعاقب على كل لحظة سكون.
الهدوء المميت الذي تخلل القصف جعل كل حركة تبدو واضحة في المكان المهجور، كان أحمد ومصعب يسمعان بوضوح خطوات جنود جيش الاحتلال الصهيوني وهم يجوبون الشوارع بحثًا عن أي ناجٍ.
ومع حلول الفجر، قاما ليصليا معًا، ويدعوا الله أن يحفظهما ويحفظ محمد، دون أن يدريا أنه قد ارتقى شهيدًا منذ ساعات.
بعد دفن محمد عاد حربي للبحث عن أحمد في أنحاء الحي المدمر، يناديه بصوتٍ يائس، وبعد لحظات من الصمت المطبق، سمع حربي صوت أخيه يرد عليه: " أنا هنا"
في تلك اللحظة الحاسمة، فُتح الباب ببطء، أخذ أحمد يتحرك بحذر ليستطلع الأمر، فرأى كلبًا بوليسيًا ضخمًا يقف عند المدخل، مزوّدًا بكاميرا مثبتة على رأسه، وضعها جنود الاحتلال الصهيوني، جمّدت خطواته في المكان، وأغلق الباب بهدوء، عائدًا إلى مخبئه. كانا محاصرين بالخوف والظلام، لا يدريان ما ينتظرهما.
في غضون ذلك، عرفت العائلة بمقتل محمد بعد مرور ثلاثة أيام من اختفائهما، عندما أخبرهم أحد أصدقائهم بأنه رأى جثة غارقة في الدماء، لكنه لم يستطع تحديد ما إن كانت الجثة تعود لمحمد أم أحمد بسبب التشابه الكبير بينهما. قال لهم: "أحدهما شهيد أو مصاب، لكنني لم أستطع الاقتراب؛ بسبب كثافة القصف".. تملكت العائلة الصدمة معتقدة أن كلا التوأمين قد استشهد.
لكن حربي، شقيقهما الأكبر، لم يقبل هذا المصير الغامض.. قرر المجازفة بنفسه والعودة إلى حي الشجاعية رغم خطورة الأوضاع. وبعد رحلة محفوفة بالخطر، وصل إلى المكان الذي أُخبر بوجود الجثة فيه.. هناك، وجد "محمد" مسجّى على الأرض، غارقًا في دمه، رافعًا سبابته إلى السماء، يشهد لله بالوحدانية.. حمله حربي إلى مستشفى الشفاء، حيث دفن هناك دون أن يودعه أحمد.
وبعد دفن محمد عاد حربي للبحث عن أحمد في أنحاء الحي المدمر، يناديه بصوتٍ يائس، وبعد لحظات من الصمت المطبق، سمع حربي صوت أخيه يرد عليه: " أنا هنا".. كانت كلمات أحمد ضعيفة، لكنها مليئة بالحياة، فقد تمكن من الصمود بأعجوبة.
الحرب لا تميز بين مقاوم ومدني، تستهدف كل روح وكل بيت، ورغم حجم المعاناة والدمار يبقى الأمل شعلة لا تنطفئ في قلب كل من بقي على قيد الحياة، وسط إبادة جماعية تمحو معالم مدينة
عندما التقيا عانقه حربي بشدة، لكن الفرحة لم تكتمل، أخبره حربي باستشهاد محمد، وكأن الكلمات كانت كالسهام تخترق قلب أحمد.. كان محمد قد دفن بالفعل، وأحمد لم يستطع أن يودعه أو يلقي عليه النظرة الأخيرة، شعر أحمد بأن الحرب قد أخذت منه جزءًا لا يمكن تعويضه، وأن الفقد سيظل يلاحقه طوال حياته.
في شوارع غزة التي تُعاقب تحت القصف، تختلط قصص البطولة بالفقدان، لتصبح الحياة هناك صراعًا يوميًا للبقاء.. أحمد ومحمد ليسا سوى رمز لألم شعب بأكمله، يعيش بين حصار وقصف وفقدان.
الحرب لا تميز بين مقاوم ومدني، تستهدف كل روح وكل بيت، ورغم حجم المعاناة والدمار يبقى الأمل شعلة لا تنطفئ في قلب كل من بقي على قيد الحياة، وسط إبادة جماعية تمحو معالم مدينة، لكنها لن تستطيع محو ذاكرة أو إرادة شعب يتوق إلى الحرية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.