برزخُ ما بين الموتتين.. ما بين غياب أنس وانقباض الروح

RAFAH, GAZA - OCTOBER 21: A Palestinian mother hugs the dead body of her child at En-Neccar hospital after the Israeli airstrikes which continues on its 15th day in Rafah, Gaza on October 21, 2023. ( Abed Rahim Khatib - Anadolu Agency )
بفقد أنس استكلبت علي فواجع الأمور أو أن فقدان مصدر الأمان يعني أن تنفرد بضعفك حلقات الضيق كلها (وكالة الأناضول)

أن تتلقفك هواجس مخيفة، تتردد في تسميتها أو عدها، أو أن تستمع لآلاف من الحروف ولا تستطيع جمعها في جملة أو حتى في كلمة، يبدأ صوت الصراخ بالارتفاع، تحاول تشتيت ذهنك بأي شيء يبعدك عن تلقف أي من الحروف، فلا تستطيع..

تبدأ ذاكرتك بالهذيان، ذاكرة استثنائية، ترص الأبيض والأسود في صف واحد، وتدمج الأحمر والأصفر في صف آخر، بل وتثني على نشوب حريق داخلي من دمجهما في الصف ذاته، لم تبدِ اهتمامًا للسعير داخلي، ولم تكلف نفسها عناء الفصل بينهما لثوانٍ معدودة لأستنشق أكسجينًا يدعمني خطوة للاستمرار، تركت الأمر للوقت، وجعلت السعير يلتهم جزئياتي إلى أن ينتهي الصف، وكان أطول صف! وكنت أحسب أنني بلا حياة قبل هذه اللحظة!!

أنس!! وهنا بدأ الشك يتقافز إلى ذهني.. ما أمسكت به أذناي هو أنس، أم إن هيمنة الشوق فرضت علي اسمه؟ وإن رجحت كفة الشوق، ولا أدري أأفرح أم أحبط وقتها!. فآه من القلب وفعله، واحتوائه للأمر وكأن لا أحد يطال أعلاه

فحيح همس يطرح بي في مرمى الحياة، أي وضع هذا الذي أنا فيه؟! آلاف من الحروف، وأصوات متداخلة، وهمس فحيح، كيف اجتمعت علي أصلًا؟! لم أكن عاصية لدرجة أن تتلقفني الآثام بين ضجيج كهذا، ولا مجحفة فتأخذني معية الأمور إلى وضعي الذي أعيش، أعلم أنها يد الله من قبل ومن بعد، ولست معترضة، ولا شيء من هذا يلوح في أرجاء سعيري، ولا في استكانة الصف الآخر.

أعلم أنها إن لم تك تسحبني لتعلو بي إلى حفاوة السماء، فإنها وحدها رأت ابتعادي عن معيتها، فتركت لي مجالًا أجرّ فيه خيبتي إلى ظلها، فتنتشلني من غياهب ما مررت به إلى رحمتها.

كل علمي بذلك في كفة ومكوثي هنا في كفة أخرى.

علا الضجيج مرة أخرى من أحد الجوانب، حاولت التمييز ولم أخرج بشيء، مسألة وقت فقط.. ما يجري في حياتنا كلها مسألة وقت، هذا ما تناقلناه بيننا لنخفف وطأة ما نمر به، أو لنجد شيئًا نتسابق عليه في حالتنا، فتظليل يوم في الرزنامة أصبح انتصارًا لمن يقوم به، وكأنه أوقف الوقت لرأيه، وهنا كل يوم نعيشه بسنة، وكل يوم مر كأنه ثوانٍ فقط.. يا لعُنجهية الحياة التي نعيش!!

إعلان

عدت للبحث عن أي شيء أتلقفه فيلقي سكينة على الصراع في رأسي، بدأت الحروف تتضح، الحروف ثابتة والهمس لم أتلق منه سوى.. أنس.

أنس!! وهنا بدأ الشك يتقافز إلى ذهني.. ما أمسكت به أذناي هو أنس، أم إن هيمنة الشوق فرضت عليّ اسمه؟ وإن رجحت كفة الشوق، ولا أدري أأفرح أم أحبط وقتها!. فآه من القلب وفعله، واحتوائه للأمر وكأن لا أحد يطال أعلاه، في أي عصر نعيش نحن؟

نظل ندرس أن مصدر التفكير هو العقل إلى حين بلوغ العشق منا مركزًا ساميًا، فتلتف التغطية بأكملها إلى انفعالات المركز، ويبدأ الدم بالانحياز إليه، فترى العاشق وقتها وقد خطف لونه، يهيأ لك أن ما يفصله عن الموت بضع ساعات، ووحدهم العشاق من يشخصون معضلته، ووحدهم من يعرفون أن علاجات الدنيا بأكملها لا تفي حقًا لحالته، ويعلمون أيضًا أن صراعات لا صراعًا واحدًا قد نشبت بداخله.

أحضروا صغيري لي وبكيت ألم قلبي الذي خشي فقده.. وبكيت أمانًا كان في وجود (أنس)، ورحل برحيله.. لم يمسس صغيري خدش بقدر ما مس روحه التي باتت تخشى أي صوت عالٍ وأي رائحة غريبة أصبحنا بثوانٍ في المشفى

شعرت بتكبيل فعلي، حاولت تحريك يدي، فشعرت بهما تتمزقان ألمًا، لم أستوعب الأمر، كررت الفعل مرة ثانية، فزاد الألم، عصيت الألم وفتحت عيني، لا شيء محبب إلى القلب، غرفة نال الغبار منها (لاحقًا عرفت أنها غرفة في مدرسة من مدارس الإيواء)، كيف أصبح الوقت نهارًا أصلًا؟ آخر ما أذكره هو وقوفي لصلاة العشاء ثم توقف الوقت.. قد لا يكون هناك رجوع في الزمن، ولكن يحدث أن يقفز من فوق أرواحنا إلى اللحظة التي يريد.

جالت فِكر في رأسي عن إمكانية تعرضي لإصابة في رأسي منعتني من تذكر الوقت والمكان.. لا ضمادة حول رأسي ولا حول أي من أعضاء جسدي! بدأت من صفر الحدث. عيناي لا أقوى على فتحهما لأتم مسألة معرفتي بمصدر الهمس وشاكلته، ذلك لأن عينيّ تحتجان علي، سئمتا مذاق الألم، أرادتا غذاء آخر وليس بيدي حيلة تجعلني أقدم لهما ما هو أفضل.

صلاة العشاء، ثم وقت فارغ إلى نهار يوم لا علم لي بترتيبه.. استدرك عقلي ضياعي فأرسل كمًا من الصدمات إلي، وليته لم يفعل!. انفجار ألقى بي وبالحائط خلفي بضعة أمتار نحو حائط آخر، فقدت تحديد الاتجاهات. كل ما استدركته هو حصاري بين حطام حائط وآخر، رائحة بارود، صغيري الذي فقدت مكانه، صراخي طالبة إحضاره خوفًا من أن يمسه شيء من الانفجار.. أو من فقده.

أحضروا صغيري لي وبكيت ألم قلبي الذي خشي فقده.. وبكيت أمانًا كان في وجود (أنس)، ورحل برحيله.. لم يمسس صغيري خدش بقدر ما مس روحه التي باتت تخشى أي صوت عالٍ وأي رائحة غريبة أصبحنا بثوانٍ في المشفى.. وما أذهلني أنني عرفت بأمر إصابتي في ظهري من الطبيبة التي أجرت فحوصاتها الروتينية على كل مصابي الإبادة.. في الوقت ذاته طمأنتني على إصرار جنيني على التشبث برحمي، ليأتي على هيئة هبة تكمل هبة قبلها من الله، تؤنس قلبي الذي فقد يوم قتل شطره الآخر.

كان أنس أماني الذي أستمد منه طاقة عصياني عند أي معضلة.. وكان أول ما فقدته.. أول ما سلبتني إياه إسرائيل

كيف يفقد الإنسان روحه فجأة؟ كيف يفقد بيته؟ نفسه؟ كيف يوقع العالم على كل هذا الألم؟ كيف تنتهك حرمات القلب، فينتزع أحد طرفيه انتزاعًا وحشيًا، ويصبح الآخر يتمزق ألمًا؟

إعلان

الآن أعي ما حدث، وكيف انتقل الوقت والمكان فجأة، وكيف هربت إلى غيبوبة تسجل ليلة سوداء قد مررت بها، وكيف هربت مرة أخرى من صدمة تذكر الليلة بإرادتي، وكيف استرجعت أوجاعها بإرادتي.. أدركت كيف استيقظت على ألم يكاد يفتك برأسي بلا ضمادات حول رأسي.. وأدركت كيف يستحدث الحنين عند فقد الأمان في كل الوجود في لحظة!

كان أنس أماني الذي أستمد منه طاقة عصياني عند أي معضلة.. وكان أول ما فقدته.. أول ما سلبتني إياه إسرائيل. بفقد أنس استكلبت عليّ فواجع الأمور، أو إن فقدان مصدر الأمان يعني أن تنفرد بضعفك حلقات الضيق كلها. أنس، وكان يصبّ عليّ عنايته إن أصابني خدش بسيط، واليوم أفتقد الخدش البسيط وعنايته..

كيف سمحوا بانتزاعهم "أنس" مني؟ كيف سمحوا لهذا الألم بالتغلغل داخلنا، دون أن يحدثوا أمرًا يوقف سيل الوجع هذا، وأنا التي كنت أتمنى أن تقف الأوجاع عند هذه الليلة؟!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان