الإنسان والسوق!

القدس-خان الزيت-يتعمد الاحتلال بطريقة غير مباشرة إبعاد الحركة السياحية عن الأسواق العربية-تصويرجمان أبوعرفة-الجزيرةنت-23-12-2018
شهدت الأسواق العربية تحولات هائلة في العصور الحديثة خاصة مع اكتشاف النفط وتوسع الاقتصاد (الجزيرة)

لقد كان للأسواق دور حاسم في تاريخ البشرية، بكونها مركزًا حيويًّا للتفاعل بين الأفراد والمجتمعات، وساهمت في تلبية حاجات الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية.

منذ فجر التاريخ، سعت البشرية لتلبية احتياجاتها اليومية من الغذاء والموارد المختلفة، الأمر الذي قاد إلى ظهور فكرة السوق كمكان أو فضاء لتبادل السلع والخدمات.

في المجتمعات البدائية، كان التبادل يعتمد على نظام المقايضة، حيث يبادل الأفراد سلعًا بسلع أخرى لتلبية حاجاتهم.. هذا النظام البسيط كان البداية لنشوء الأسواق، التي تطورت تدريجيًّا عبر العصور مع ظهور الحضارات الكبرى في الشرق الأوسط والعالم.

على مرّ العصور الوسطى، كان للأسواق العربية دور محوري في الاقتصاد العالمي. ومن أبرز الأسواق التاريخية في العالم العربي "سوق عكاظ"، الذي كان مركزًا تجاريًّا وثقافيًّا، حيث اجتمع فيه التجار والشعراء

يمكن النظر إلى الأسواق كمرآة تعكس التطور الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي الذي شهدته البشرية عبر الزمن.. من أولى الحضارات التي ظهرت على ضفاف الأنهار الكبرى مثل النيل ودجلة والفرات، بدأت الأسواق تتخذ شكلًا أكثر تنظيمًا مع تطور الزراعة وتوسع النشاطات التجارية.

في مصر القديمة، على سبيل المثال، أخذت الأسواق دورًا محوريًّا في تنظيم توزيع الموارد الزراعية والغذائية، حيث وصلت المساحات الزراعية إلى حوالي 33.000 كيلومتر مربع، وفقًا لتقديرات علماء الآثار. وكانت هذه الأراضي تُدار بشكل مركزي لتلبية احتياجات المجتمع.

ومع مرور الزمن، شهدت الأسواق البابلية والفينيقية تطورًا ملحوظًا، خاصة في مجالات التجارة البحرية التي ربطت بين شعوب مختلفة على طول سواحل البحر المتوسط. الحضارة الفينيقية، التي تعتبر من أولى الحضارات البحرية، أسست شبكة تجارية عبر البحر المتوسط، حيث صدّرت الأخشاب والزيوت والزجاج إلى الحضارات الأخرى. ووفقًا لمصادر تاريخية، كانت التجارة الفينيقية تشكل ما يقرب من 30% من حركة التجارة في البحر المتوسط خلال الفترة الكلاسيكية.

على مرّ العصور الوسطى، كان للأسواق العربية دور محوري في الاقتصاد العالمي. ومن أبرز الأسواق التاريخية في العالم العربي "سوق عكاظ"، الذي كان مركزًا تجاريًّا وثقافيًّا، حيث اجتمع فيه التجار والشعراء والفلاسفة.

إعلان

لم تكن هذه الأسواق فقط مكانًا لتبادل السلع، مثل: التمور والجلود والأقمشة، بل أيضًا مركزًا للتفاعل الثقافي والشعري، حيث نُظمت المسابقات الأدبية والشعرية التي أثرت في تطور اللغة العربية والثقافة الإسلامية.

كما شهدت تلك الفترة ازدهار التجارة عبر الطرق البرية والبحرية، مثل طريق الحرير الذي امتد لمسافة 6437 كيلومترًا (وفقًا لمصادر الأمم المتحدة)، وطريق البخور الذي ربط الأسواق العربية بالهند والصين وشرقي أفريقيا، ما جعل هذه الأسواق مركزًا للتجارة الدولية.

يُقدّر أن تجارة الحرير وحدها كانت تُدر ما يعادل مليوني دينار سنويًّا في تلك الفترة، ما عزز دور الأسواق العربية كجزء من الاقتصاد العالمي القديم.

مدينة دبي، على سبيل المثال، تطورت من ميناء تجاري بسيط إلى واحدة من أكبر مراكز التجارة العالمية، حيث بلغ حجم التجارة الخارجية غير النفطية للإمارة حوالي 354 مليار دولار في عام 2020 (وفقًا لدائرة الإحصاء في دبي)

مع توسع الإمبراطورية الإسلامية، ازدهرت الأسواق في المدن الكبرى، مثل: بغداد، ودمشق، والقاهرة. سوق بغداد كان أحد أهم الأسواق العالمية في تلك الفترة، حيث كان يربط بين الشرق والغرب، ويعزز حركة التجارة والثقافة.

ووفقًا لبعض المصادر التاريخية، كان في بغداد أكثر من 100 سوق نشط في القرن التاسع الميلادي، وكان عدد التجار العاملين في هذه الأسواق يُقدّر بالآلاف. وارتبطت التجارة بالعديد من السلع، مثل: التوابل، والمنسوجات، والمعادن، ما جعل بغداد في ذلك الوقت مركزًا اقتصاديًّا عالميًّا.

الأسواق العربية في تلك الحقبة تميّزت بالتنظيم الجيد، حيث كانت عمليات التجارة تتم بأساليب حديثة نسبيًّا في تلك الفترة، مثل نظام الحسابات والعقود التجارية. وفي الوقت ذاته، أخذت الأندلس دورًا حيويًّا في نقل المعرفة من خلال أسواق الكتب والمخطوطات التي شهدت تبادلًا ثقافيًا بين الشرق والغرب، وكانت في ذلك الوقت تُنتج حوالي 70% من الكتب المتداولة في العالم الإسلامي.

شهدت الأسواق العربية أيضًا تحولات هائلة في العصور الحديثة، خاصة مع اكتشاف النفط وتوسع الاقتصاد في الخليج العربي. اليوم، يُقدر أن إجمالي الناتج المحلي لدول مجلس التعاون الخليجي يبلغ حوالي 1.6 تريليون دولار سنويًا (وفقًا لتقارير البنك الدولي)، ويشكل النفط والغاز حوالي 40% من الناتج الإجمالي.

وقد أصبحت الدول النفطية في الخليج مثل: السعودية، والإمارات، وقطر مراكز مالية وتجارية عالمية، حيث جذبت الاستثمارات الأجنبية وأسست بنية تحتية متقدمة، تدعم حركة التجارة العالمية.

تحول اقتصاد هذه الدول من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى الاستثمار في الأسواق المالية والمشاريع الصناعية والعقارية، ما ساهم في نمو هائل لهذه الأسواق خلال القرن العشرين.. مدينة دبي، على سبيل المثال، تطورت من ميناء تجاري بسيط إلى واحدة من أكبر مراكز التجارة العالمية، حيث بلغ حجم التجارة الخارجية غير النفطية للإمارة حوالي 354 مليار دولار في عام 2020 (وفقًا لدائرة الإحصاء في دبي).

انتشار الهواتف الذكية في العالم العربي تجاوز 65% وفقًا لتقرير "GSMA"، وتطبيقات الدفع الإلكتروني مثل "أبل باي" و"سامسونج باي" ساهمت في تعزيز حركة الأموال وسهولة التجارة

حركة الأموال في الأسواق العربية شهدت تطورات متسارعة في القرن العشرين؛ فقد بدأت البنوك بالانتشار والازدهار في الدول العربية، وساهمت في تعزيز حركة رأس المال وتوفير القروض لتمويل المشاريع التجارية والصناعية. ووفقًا لاتحاد المصارف العربية، يبلغ حجم الأصول الإجمالية للبنوك العربية حوالي 4.3 تريليونات دولار، ما يجعلها لاعبًا رئيسًا في دعم الاقتصاد.

إعلان

ومع تأسيس الصناديق السيادية في الدول النفطية، مثل جهاز قطر للاستثمار الذي يدير أصولًا تبلغ قيمتها أكثر من 450 مليار دولار (وفقًا لتقديرات معهد الصناديق السيادية)، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي بلغت أصوله حوالي 700 مليار دولار، أصبحت هذه الدول تمارس دورًا محوريًّا في الاقتصاد العالمي، من خلال استثمار أموال النفط في الأسواق العالمية، وتنمية أصولها. هذا التحول ساهم في تعزيز مكانة الأسواق العربية وجعلها جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي.

في القرن الواحد والعشرين، تشهد الأسواق العالمية تحولًا جذريًّا بفضل التقدم التكنولوجي والعولمة.. الأسواق الإلكترونية أصبحت جزءًا مهمًّا من حركة التجارة العالمية، حيث تُقدر قيمة التجارة الإلكترونية عالميًّا بحوالي 4.9 تريليونات دولار في عام 2021 ، وفقًا لتقديرات "Statista"، ومن المتوقع أن تنمو إلى 7.4 تريليونات دولار بحلول 2025.

هذا التحول أثر بشكل مباشر على الأسواق العربية، حيث بدأت دول عربية عديدة بتبني التكنولوجيا الحديثة لتطوير أسواقها المحلية.. أصبحت التطبيقات الرقمية والمنصات الإلكترونية مثل: "نون" و"سوق دوت كوم" جزءًا أساسيًّا من اقتصاد التجارة الإلكترونية في العالم العربي، ويُتوقع أن تنمو هذه الأسواق إلى حوالي 50 مليار دولار بحلول عام 2025 (وفقًا لتقرير صادر عن غرفة تجارة دبي).

بالإضافة إلى ذلك، تعد التكنولوجيا المالية (الفينتك) أحد العوامل المحورية في تطوير الأسواق العربية.. انتشار الهواتف الذكية في العالم العربي تجاوز 65% وفقًا لتقرير "GSMA"، وتطبيقات الدفع الإلكتروني مثل "أبل باي" و"سامسونج باي" ساهمت في تعزيز حركة الأموال وسهولة التجارة.

في بعض الدول العربية، أصبحت البنوك تقدم خدمات مصرفية رقمية بالكامل، ما سهل على المستهلكين والتجار إدارة أموالهم وإجراء المعاملات بسرعة وفاعلية، ويُتوقع أن تنمو التكنولوجيا المالية في العالم العربي بمعدل نموّ سنوي يبلغ 30% حتى عام 2025 (وفقًا لمركز البيانات المالية الإقليمي).

القرن الواحد والعشرون يحمل تحديات جديدة للأسواق العربية، لكن مع الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار، تبقى هذه الأسواق قادرة على النمو والمنافسة في الاقتصاد العالمي

أهمية الأسواق العربية في القرن الواحد والعشرين لا تقتصر على التجارة التقليدية فقط، بل تمتد إلى استثمارات ضخمة في مجالات التكنولوجيا والابتكار. دول الخليج على وجه الخصوص بدأت بالاستثمار في الصناعات المستقبلية، مثل: الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، ما يعزز من قدرة هذه الأسواق على المنافسة في الاقتصاد العالمي.

تُقدر الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي في السعودية وحدها بحوالي 135 مليار دولار بحلول عام 2030 (وفقًا لتقارير ماكنزي). كما أن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي بات أمرًا ضروريًّا لضمان استمرارية النمو والتطور في هذه الأسواق.

الخلاصة.. إن الأسواق كانت وستظل جزءًا حيويًّا من حياة الإنسان، سواء في تلبية حاجاته الأساسية أو في تعزيز النمو الاقتصادي. تطورت الأسواق عبر العصور، وتأثرت بعوامل عدة من الزراعة إلى الثورة الصناعية والعولمة والتكنولوجيا الحديثة.

في العالم العربي، أخذت الأسواق دورًا رئيسًا في تطور الاقتصاد والثقافة، وواصلت هذا الدور حتى يومنا هذا. القرن الواحد والعشرون يحمل تحديات جديدة للأسواق العربية، لكن مع الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار، تبقى هذه الأسواق قادرة على النمو والمنافسة في الاقتصاد العالمي.

لبدء مشروع بيوتيكا هوب بنجاح، يتراوح رأس المال الضروري بين 5 مليونات ريال و9 مليونات ريال.. يشمل هذا المبلغ تكاليف التأسيس والتشغيل لعدة أشهر حتى يصل المشروع إلى مرحلة الاستقرار والقدرة على تحقيق الإيرادات المستدامة. من المهم أيضًا إعداد خطة مالية مرنة تأخذ في الاعتبار المتغيرات والمستجدات التي قد تطرأ على السوق.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان