كنت أتابع في إحدى محاضرات مادة الشعر الإنجليزي الحديث، ضمن منهاج السنة الرابعة لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها، دراسة قصيدة "الموت" للشاعر وليم بتلر ييتس، وأشار الأستاذ الدكتور زياد الشكعة مدرس المادة إلى أن هذه القصيدة تؤكد إيمان الشاعر بتناسخ الأرواح، وهو ما يعني أن الإنسان إذا مات يفنى منه الجسد، وتنطلق منه الروح لتحل في جسد آخر وفقًا لما قدَّم من عمل في حياته الأولى، وتبدأ الروح في ذلك دورة جديدة في جسد جديد.. ثم استطرد الأستاذ بالعربية، في ثنايا شرحه بالإنجليزية، فقال: تمامًا مثلما تؤمن جماعة الدروز بتناسخ الأرواح.
إذا أمعنا النظر فيما يُغتال من أوطان، لم نجد بين ذلك إلا أراضي المسلمين وحدها دون غيرها، فالأندلس الأرض الإسلامية العربية التي وعت الحضارة وحفظتها، وعلّمت الأوروبيين ألف باء المدنية، قد اغتيلت في ظروف حالكة السواد
وبمجرد سماعي عن الدروز وددت لو تنتهي المحاضرة في أسرع وقت لأسأل الدكتور عن الدروز، لشغفي وقتئذ بالتعرف على الفرق الإسلامية، واهتمامي بالوقوف على العقيدة الإسلامية السليمة، كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. وبالفعل ذهبت إلى الدكتور، وسألته: من هم الدروز؟ فرد عليّ: واضح أنك مهتمة بالمعرفة، لذلك أنصحك بقراءة كتاب "إسلام بلا مذاهب" للدكتور مصطفى الشكعة.. (أبويا).
فلم ألبث بالفعل أن اشتريت الكتاب، وصاحبته لثلاثة أيام من أسعد أيام حياتي حتى انتهيت منه، وجاءني شعور عميق بالرضا بعقيدتي، واعترتني فرحة العلم بعد الجهل، وأي علم!
فالدكتور مصطفى الشكعة – رحمه الله – تناول الفرق الإسلامية بدون تعصب، بل بحيادية الباحث عن الحقيقة؛ فقد ابتعد الشكعة عن كل ما يثير النفوس ويوغر الصدور ويقطع الأواصر، لأن الحقيقة في جوهرها تشكل غاية نبيلة، يستهدف الوصول إليها كل منصف بغض النظر عن مذهبه أو عقيدته، فكان الحديث عن الفرق الإسلامية واضحًا والعرض صريحًا.
فالكتاب يتناول الخوارج، والإباضية، والشيعة الإمامية، والزيدية، والإسماعيلية، والآغاخانية، والبهرة، والدروز، والعلويين، والقادينية، والأحمدية، والمعتزلة، والسُّنة، والسلفيين، والمتصوفة.
قال الشكعة في مقدمة الكتاب: "كلما نظرت إلى أحوال المسلمين في حاضرهم راعني ما هم فيه من اضطهاد واستعمار، فخيرات بلادهم مسلوبة، وأرزاقهم حرام عليهم حلال لغيرهم، وديارهم نهب مباح لشذاذ الآفاق من كل مكان، والتعصب الغربي الأعمى بما يحمل في أنيابه من هلاك لا يجد من بين شعوب الأرض ما ينفث فيها سموم الأذى والبوار إلا الشعوب المسلمة، فأصبح المسلمون في حاضرهم غرباء عن أوطانهم، مضطهدين في ديارهم، محرومين مما تنبت أرضهم من خيرات وفيرة حلالًا طيبًا.
واحد من الأهداف الأساسية لهذا الكتاب كان – ولا يزال – تثقيف الشباب المسلم في كل أرض وصقع، ومن كل مذهب ومشرب، ثقافة مذهبية تكون سبيلًا إلى السماحة، ودرعًا ضد التعصب والعصبية
وإذا أمعنا النظر فيما يُغتال من أوطان، لم نجد بين ذلك إلا أراضي المسلمين وحدها دون غيرها، فالأندلس الأرض الإسلامية العربية التي وعت الحضارة وحفظتها، وعلّمت الأوروبيين ألف باء المدنية، قد اغتيلت في ظروف حالكة السواد، تستنكرها الشرائع سماويها وأرضيها، لما ارتُكب فيها من قتل المسلمين جملة رجالًا ونساءً وعجائز وأطفالًا، وفلسطين الوطن العربي الإسلامي قد حل به ما حل بالأندلس، بل أشنع مما حل بالأندلس، فقد جمع الغربُ من أصقاع العالم أعراقًا مختلفة تدين باليهودية، واغتصب لهم وطنًا من أرض المسلمين، غير عابئ بما حل بهم من تشريد وجوع وفاقة ومجاعة وأمراض، وكأن دماء المسلمين وأوطانهم وأرزاقهم قد أصبحت حِلًّا مباحًا لمن هبَّ ودبَّ".
وأضاف: "لقد سيطر على اهتمامي ألا أخدش شعور أحد من هذه الفرق الإسلامية الكثيرة، التي تماوجت بين الاعتدال والغلو، مع الحرص على ذكر حقائق كاملة، سواء منها ما كان متصلًا بالتاريخ أو مرتبطًا بالعقائد، أو موصول الأسباب بالأشخاص.
والتزامًا بمنهجي الذي آليت على نفسي ألا أحيد عنه، سلكت سبيل الكلمة الطيبة، والجملة الحانية، والعبارة الناعمة، مع الحرص على ذكر الحقائق وإبانة وجوه الخلاف، ليس لتفريق الكلمة، وإنما ليعيد كل فريق النظر في نقاط الخلاف – وهي قليلة بين الفرق المعتدلة التي هي الغالبية الكبرى من جمهرة المسلمين – كما يستحضر نقاط الاتفاق، وبهذا سوف يجد المسلمون أنفسهم قريبين بعضهم إلى بعض بأكثر مما يتصورون، وحينئذ يجتمع الشمل، وتتوحد الكلمة، ويلتئم الصف، ويصير الجميع بنعمة من الله إخوة متحابين متساندين مستحبين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى".
كما أضاف: "إننا استهدفنا من كتاب "إسلام بلا مذاهب" الدعوة إلى وحدة الكلمة بين المسلمين، ولمّ الشمل، ورأب الصدع، وتضييق الشقة بين المذاهب الإسلامية المعتدلة، متمنين على الغلاة أن يفيئوا إلى كلمة الحق، وأن يعودوا إلى المصدر الأصيل الذي استقت العقيدة منه أركانها، واستمدت الشريعة منه أحكامها، بعيدًا عن شطط التأويل وغموض التخريج، ذلك أن سمة الإسلام الأولى هي السهولة والوضوح، ودعامته الأصيلة هي الإيمان بالله ربًّا، وبمحمد رسولًا، وبالقرآن كتابًا، مع الاستظلال براية الأخوة والتآلف، والمودة والتعاطف، والمحبة والإيثار.
على أن واحدًا من الأهداف الأساسية لهذا الكتاب كان – ولا يزال – تثقيف الشباب المسلم في كل أرض وصقع، ومن كل مذهب ومشرب، ثقافة مذهبية تكون سبيلًا إلى السماحة، ودرعًا ضد التعصب والعصبية، اللذين يشكلان عقبة صعبة التخطي في سبيل التقدم والتجمع على حد سواء".
إنني لأستحضر كتاب "إسلام بلا مذاهب" اليوم لدعوة المسلمين إلى وحدة الصف لمواجهة عدوهم الغاشم المغتصب، فدعونا من الخلافات، واتركوا المحاسبة لله وحده، لا شريك له، ولنلتفّ كلنا حول المقاومة التي تواجه عدونا المجرم
وقد قدّم للكتاب الأستاذ الشيخ محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر، وتحدث في تقديمه عن تفرق المسلمين فقال: "ولقد فهم المسلمون الأولون روح هذا الدين الحنيف، واختلفوا في فهم نص من كتاب الله أو سنة رسول الله، ولكنهم – مع هذا الخلاف – كانوا متحدين في المبادئ والغايات، لم يكفّر بعضهم بعضًا، بل كانوا يدًا واحدة على من عاداهم.
ثم خلف من بعدهم خلف جعلوا دينهم لأهوائهم، فتفرقت الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب وعصبيات، واستباح بعضهم دماء بعض، وكان بأسهم بينهم شديدًا، فطمع فيهم من كان لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فذهبت ريحهم، وتجرأ عليهم أعداؤهم، وانتقصوا بلادَهم من أطرافها، كل هذا ودعاة الفرقة سادرون في غيِّهم، ماضون في طريقهم، لا يدفعهم إلى هذا الطريق الشائك إلا أحد أمرين: إما الجهل بمبادئ الإسلام الصحيح، وإما الكيد لهذا الدين الحنيف.
لقد لقي الإسلام على يد هؤلاء وأولئك ما لقي من نكبات ومصائب، ولولا قوة تعاليمه وصفاء منبعه واتساق عقيدته مع الفطرة الإنسانية لحرمت الإنسانية من مزاياه وفضائله".
وأضاف الشيخ شلتوت أن الاستعمار يشجع الفرقة قائلًا: "ولقد استغل المستعمرون أسباب الفرقة بين المسلمين أسوأ استغلال، فراحوا يبعثون من قبور التاريخ أسباب العداوة والبغضاء، وينفخون في نار قد خمد أوارها وانطفأ لهيبها، لأن أكثر هذه الأسباب قد أصبحت غير ذات موضوع، كل هذا لتبقى لهم الكلمة النافذة في بلاد الإسلام التي حباها الله بخيرات لا تكاد توجد في غيرها من بلاد الله.
كما أضاف شلتوت أن المقصود الأصلي من كتاب "إسلام بلا مذاهب" هو الكلام عن الفرق الإسلامية: الغلاة منهم والمعتدلين، فقد تكلم عن كل فرقة، وكيف نشأت، وكيف تطورت، وقد أعجبني منه أنه عالج هذا الموضوع الشائك بأسلوب المؤرخ الأمين، ولكن في هوادة لا تثير فتنة، ولا تورث ضغينة، ولا تبعث عصبية، ولم ينسَ في الكلام على فرق الغلاة أن بيّن سبب غلوهم في رقة من يخشى على وحدة الأمة أن تتصدع.
يصعب عليّ أن أطالب المجروح المكتوي بالنار بالرشد في التفكير، والعفو ولو وقت الحرب الوجودية لإسرائيل التي يبدو عليها التخبط نتيجة فشلها الذريع في غزة؛ فالموجوع لا يستطيع رؤية المشهد كاملًا
وإنني لأستحضر كتاب "إسلام بلا مذاهب" اليوم لدعوة المسلمين إلى وحدة الصف لمواجهة عدوهم الغاشم المغتصب، فدعونا من الخلافات، واتركوا المحاسبة لله وحده، لا شريك له، ولنلتفّ كلنا حول المقاومة التي تواجه عدونا المجرم.. فأنا أشعر أنني مطعونة، ولا يسعني التأوه لأنني لا أستطيع التحكم في دموعي على حال أمتنا العربية. فيا لفرحة عدونا فينا! ويا لضعفنا وهواننا على الناس!
فوسط هذا الضعف والهوان نختلف حول حسن نصر الله سيد المقاومة، وانتصاراته على العدو الصهيوني الغاشم عام 2000، لكن بعد عدة سنوات من انتصاره راح يبيد إخوته في سوريا، وقد اكتووا بناره لدرجة أننا – ونحن البعيدون – لم نقدر على سماع أهوال ما صنع مع أعوانه في السوريين، فما بالنا بشعورهم تجاهه!
وهو في الوقت نفسه يدعم المقاومة الفلسطينية بكل ما يستطيع، وقد شاهدنا ذلك منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، إذ إنه يتصدى لعدونا الغاشم المغتصب جنبًا إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية، حتى اغتيل نصر الله في وقت لم تندمل فيه جروح وعذابات إخوتنا في سوريا، بل وفرحوا باغتياله في حرب إسرائيل الوجودية، فأوجعني فرحهم؛ لأنه كان عدوًّا لعدونا كلنا.
لكنني في الوقت نفسه يصعب عليّ أن أطالب المجروح المكتوي بالنار بالرشد في التفكير، والعفو ولو وقت الحرب الوجودية لإسرائيل التي يبدو عليها التخبط نتيجة فشلها الذريع في غزة؛ فالموجوع لا يستطيع رؤية المشهد كاملًا، لكنني فقط ألفت انتباهه إلى أن خطر العدو يداهمنا جميعًا، وأطالب الجميع بالرؤية الشمولية، وتخطي العداوات الداخلية والخلافات والاختلافات العقائدية للتصدي لعدونا المشترك، لأننا كلنا في مركب واحد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.