أسير في الطريق فلا أرى غير العيون، أذهب إلى عملي ولا أجد أشخاصًا بل عيونًا، أخرج علّني أحظى بنسمة تدخل صدري، فتزيح عن قلبي بعض الهمّ وتسرّي عني، فأرى حمامًا يأكل ما نُثر من بقايا الخبز وفتاته، تدير الحمائم رؤوسها تجاهي فلا أرى غير أعينها، أصدم من نظرات الحمام، وأن لها أعينًا لم أرَها مسبقًا، أكان للحمام أعين؟! وأمر بالقطط فإذا أعينها منصبة نحوي، تهاجم عينَيّ كسيوف بأشعة ليزرية فينقبض داخلي، ويصبح كلي متسترًا مختبئًا في جوفي.
لا أجد وصفًا مشابهًا يعينني على استعادة اتزاني في وسط ترنحي، سوى أنني ولجت عالمًا آخر، لست ميتة، ولست على قيد الحياة، إنني – وبلا شك – في عالم اللانهاية، عالم كوكو
أمشي في الطريق مع أختي فتطالعنا فتاة في الرابعة عشرة من عمرها بنظرات، لشدة ما أثارت دهشتي ومخاوفي. سألت أختي: لمَ تطالعنا الفتاة بهذه النظرات المنصبة نحونا كالرصاص؟ تخبرني أختي بأنها أخت الشهيدين، اللذين قتلا أحدهما فوق الآخر في الشارع، ولم تستطع توديعهما أو قبرهما في الثرى، تركتهما على الإسفلت تحت المطر المنهمر على جسديهما تبكيهما السماء، وتسح من غمامها الدموع تحميهما من أنياب الكلاب، وبساطير الجنود الذين أزعجهم ماء السماء، فالتجؤوا إلى مدرعاتهم يحتمون من المطر!
ذهبنا نبتاع خدمة الإنترنت لنصلها بهواتفنا لإتمام ملف تعبئة الغاز الذي أصبح يسلم إلكترونيًا! رفعت رأسي وإذا برجل كبير اخترقتنا سهام لحظه، فثقبتنا وألقت ما فينا، وبقي الخوف يزمجر بداخلي الخاوي. وبقيت على هذه الحالة أرى عيونًا تخرج من محجريها فتصدمني، لا أفهم ما يدور حولي، وأسير ملتفة بعباءتي أريد أن أختفي، كي لا تجدني العيون وتهاجمني.
أقف خلف ستار وهمي حاكته مخيلتي، تهب رياح ثمودية، فأخفض رأسي كي لا يصيبني أي شيء متطاير في الهواء، وحين تصمت زمجرتها أنظر من خلف معصمي فأرى هياكل كأنها بشر، يتحركون، ويشترون، ويطلقون شتائم ساخرة، ويتشاجرون في ثمن البضاعة.. شيء ما قذفني من ماسورة المدفع فوجدتني بين آلاف النازحين الشهداء، وآلاف الشهداء الأحياء. لا أجد وصفًا مشابهًا يعينني على استعادة اتزاني في وسط ترنّحي، سوى أنني ولجت عالمًا آخر، لست ميتة، ولست على قيد الحياة، إنني – وبلا شك – في عالم اللانهاية، عالم كوكو.
"كوكو" فيلم كرتوني يتحدث عن سيدة عجوز اقتبس من اسمها عنوان الفيلم، هجرها والدها حين كانت صغيرة بحثًا عن حلمه وتحقيقه، وتصدير كلماته الموسيقية، وتسويقها مع ألحانه للعالم. ولديها حفيد يدعى "ميغيل" يحب الموسيقى، والعزف على الجيتار، المحرّمين داخل عائلته، ويعتبران الخطيئة الكبرى التي تستوجب الطرد من شجرة العائلة، بموجب قانون أقرته جدته الكبرى "ماما إيميلدا" تمنع فيه الموسيقى، وكل ما يمت إليها بصلة في البيت، بعد أن تركها زوجها وحيدة تتحمل مسؤولية طفلتهما الصغيرة "كوكو".
أرهبتني العيون، رأيت فيها بعض الأشخاص لا ينظرون، بل يتحاشون إطلاق البصر! هم مشغولون بكل شيء يمكنهم من الابتعاد عن أنفسهم وذواتهم، بل القفز عنها
أما عن مدينتهم الرائعة، ففيها عرف متوارث لدى السكان، ينص على تعليق صور موتى عوائلهم في إطارات، ونثر ورق شجرة يعد رمزًا للمدينة، وله قدسية معينة، لم يعرفه "ميغيل" الصغير، وهذا العرف يجب إحياؤه كل سنة، حتى لا يختفي موتاهم، ويندثروا من عالمهم الآخر، عالم اللانهاية!
حين بدأت الحرب كنت أحتفظ بجسدي كاملًا بلحمه وعظمه، ولكني منذ شهر، حين بدأ جسدي يتآكل ويختفي، وحين بانت عظامي، بدأت حينها أفهم ما يحصل لي، بدأت أفهم العيون وأدركها، ولم أعد أخافها، بل أتعاطف معها ومع أصحابها، أدركت أني دخلت إلى غزة أخرى، إلى مدينة تشبه مدينتي في موقعها الجغرافي، وأن الناس في غزة، هم سكان هذه المدينة، ولكنهم يقطنونها بعد موتهم!
أمات أهل غزة؟! نعم، كل من في غزة ميت.. ولكنهم يتنفسون، ويأكلون! نعم على هيئة هياكل عظمية، كما في الحياة الأخرى للعالم الذي ولجه "ميغيل"، بعد أن أراد مخالفة قانون العائلة، والسير وراء حلمه، كما كان حال أهل غزة، حين حلموا بواقع أفضل من سنوات الحصار المفروضة منذ عقود طويلة قاسية، ولكنهم وجدوا أنفسهم في عالم يشبه عالمهم.
أنا أيضًا مثلهم لم أدرك أين أصبحت، كانت الإشارات تدلني، وتشرح لي بأي حال ومكان أصبحت، ولكني لم أفهم العيون، أكنت آخر الميتين في غزة، أم إنني دخلت غزة أخرى، كل من فيها ينظر بغرابة ووحشية.
أرهبتني العيون، رأيت فيها بعض الأشخاص لا ينظرون، بل يتحاشون إطلاق البصر! هم مشغولون بكل شيء يمكنهم من الابتعاد عن أنفسهم وذواتهم، بل القفز عنها، وتجنب حقيقة ما يعيشونه، كان هناك في عالم العظام شخص يكاد أن يتلاشى، ينبذه الجميع، ولا يدعوه أحد لأي مكان، ولا يذكره، هو ذاته الغزي في عالمي الموازي لعالم "كوكو"، فحين ينتهي ذكرك فيه تختفي بقايا عظامك، وتتطاير مثل خنافس براقة، وتترسب كزبد البحر، كأي شيء يزيد من جمال هذا الكوكب.
أستنتهي لغتنا كغزيين، والتي طردنا بموجبها من عدالة العالم، وإنسانيته؟ أستشملنا القوانين، وتضمنا كبشر وتنظر لمظلمتنا بعين الاعتبار، وتوصل خيوط التعاطف كما فعلت مع اليهود بعد انتهاء النازية، وفناء صاحبها؟
هذا دَينك كبشري يوفيه إليك الكوكب، ويكافئك بعد سنوات طويلة من الخدمة، أقصد من العيش عليه! فتتقاعد بترسبك في قاعه. أَوَ تشملنا هذه الميزة كغزيين؟ فنحن نقتل وننسى، ثم يذكرنا التاريخ كضحايا لمجرم مات واندثر، أو كقطرة في أنهار أو بحار من الدم التي أريقت واستبيحت لتحرر البلاد من ظلم احتلالها، واستيطانها من قطعان الضباع النتنة! إذن حظنا من الدنيا هو قطرة دم استسيغت من دم المعذبين وجبلت بها الأرض!
ما أتساءل عنه حقًا، هل ستكون لدي فرصة للعودة إلى مدينتي التي كانت قبل أن تسكنها هذه العيون المفجوعة، والتي أبصرت القيامة من دنياها؟ أم إن روحي وجسدي سيبقيان رهينتين في هذا العالم الموحش، ألدى الغزي فرصة للعودة إلى الحياة كما عاد "إيكتور" في حكاية "ميغيل وكوكو"؟
أيستقبله العالم ويحتضنه مجددًا، كناجٍ من الحرب ومصاب فيضمدون جراحاته، ويهدهدون نبضات قلبه اللاهثة بلا نهاية، أم سيبقى منبوذًا كما الآن؟ تلاحقه وصمة النزوح وصفته، هل ستتم معايرته والمنّ عليه في بقية حياته، بالمعونات، والمعلبات، والأكفان التي وقفت حائرة، تنازعها الأكياس في وظيفتها؟
أسيسحق الطغاة، ويختفون إلى الأبد، بعد أن تتم معاقبتهم، وفضح جرائمهم كـ "ديلاكروز"؟ أسينتهي بؤسنا البشري، ويحل محله الفرح، والحياة الكريمة بلا نبذ، وكره، وموت، ودما؟ أستنتهي لغتنا كغزيين، والتي طردنا بموجبها من عدالة العالم، وإنسانيته؟ أستشملنا القوانين، وتضمنا كبشر وتنظر لمظلمتنا بعين الاعتبار، وتوصل خيوط التعاطف كما فعلت مع اليهود بعد انتهاء النازية، وفناء صاحبها؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.