ترددت وتلكأت بحضور مؤتمر صحفي يتناول إدارة التعليم والنهوض به، وذلك في إطار الإعداد لمؤتمر تعليمي ينظمه "المركز العالمي للتميز التعليمي"، وهي مؤسسة ماليزية تعنى بنوعية التعليم، ويمكن وصفها برابطة تضم مئات المدارس الخاصة في عدة دول.
لم أجد بدًا من تلبية الدعوة من باب الحفاظ على العلاقات العامة، وإلا فما للجزيرة وللتعليم في أطراف العالم مع توسع الحرب في فلسطين، من غزة إلى الضفة، ومنها إلى لبنان، والحبل على الجرار.
تحدث في المؤتمر الصحفي رئيس المؤسسة الأستاذ أزلان زانزالي، وهو شيخ أفنى حياته في التعليم والتربية، ويترأس جامعة أقيمت حديثًا في ولاية برليس الماليزية، وهنا استوقفني رده على سؤال عن القيم في المناهج وإدارات التعليم، بالقول: "إن التعليم الذي نريده ليس التعليم التقليدي، والمناهج المصممة لإنشاء أجيال لا هدف لها، وما نسعى إليه هو الوصول إلى النموذج الذي يحرّر فلسطين".
وأسهب الأستاذ زانزالي في شرح عملية تربوية هادئة بعيدة المدى، تضع هدفها الأخير إعداد شخصية قوية قادرة على تحمل المسؤولية، ولا يوجد مسؤولية أكبر من تحرير فلسطين والأقصى، بحسب تعبير الأستاذ الذي لم أعرفه إلا من خلال مؤتمره الصحفي.
فتح قادة سريلانكا الجدد أرشيف الذاكرة، فتوقفت عند وصول مسؤول أميركي رفيع ذات يوم إلى الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي، يطلب من رئيسها دعم موقف إسرائيل في الأمم المتحدة، حيث كانت الجزيرة "غير المنحازة" ممثلة في مجلس الأمن الدولي
عابرة للحدود والأفكار
حديث زانزالي في مؤتمر صحفي أعادني إلى لقاء سريع في سريلانكا مع قادة الحزب ماركسي التوجه "حزب قوة الشعب الوطني"، وكان اللقاء قبل يومين فقط من المؤتمر الصحفي حول التعليم.
ففي يوم انتخابي عاصف ترك قادة الحزب اليساري الحديث عن الشغل الشاغل في سريلانكا ليسهبوا في الحديث عن معاناة الفلسطينيين والوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة، وعن محاربة الإمبريالية والعنصرية، وفقدان الثقة بنظام عالمي جائر.
إنه الحزب الذي أحدث انقلابًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بوصول رئيسه إلى سدة الحكم، ويترأس أحد قادته لجنة الصداقة السريلانكية الفلسطينية، وقد انتقد نفاق ساسة يدعمون فلسطين علنًا ويتواصلون مع الاحتلال خفية، ويؤكد الجميع أن فلسطين كانت حاضرة في حملات الدعاية الانتخابية لجميع مرشحي منصب الرئيس، وأن أحد المرشحين أقام مهرجانًا لتأبين إسماعيل هنية.
فتح قادة سريلانكا الجدد أرشيف الذاكرة، فتوقفت عند وصول مسؤول أميركي رفيع ذات يوم إلى الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي، يطلب من رئيسها دعم موقف إسرائيل في الأمم المتحدة، حيث كانت الجزيرة "غير المنحازة" ممثلة في مجلس الأمن الدولي، وكان رد الرئيس أن لديه انتخابات مقبلة ولا يمكنه المخاطرة بأصوات مليونَي مسلم في بلاده، بينما لا يوجد فيها يهودي واحد يعطيه صوته، إنها معادلة ديمقراطية لا تحبذها أميركا في دول العالم الثالث.
وفي تشاناي أو مدراس سابقًا، على بعد نحو 60 كلم عبر المحيط الهندي، جمعني لقاء عابر مع نخبة من أنصار نمور التاميل، وهم أعضاء في منظمة (17 مايو)، والتسمية هنا نسبة إلى اليوم الذي حسمت فيه القوات السريلانكية معركتها مع حركة "نمور تحرير تاميل إيلام" عام 2009.
الكلمة الجامعة بين هؤلاء المتعاطفين هي الإبادة الجماعية، وعدم تبرئة الموساد من إحباط مطلب تقرير المصير لتاميل إيلام شمال سريلانكا، وأخرج أحدهم كتيبًا مصورًا يقارن فيه بالصور بين مذابح التاميل في جفنة السريلانكية شمالًا وغزة الفلسطينية جنوبًا، يوضح كيف أن العالم الذي لم يحاكم المسؤولين عن جرائم الإبادة في 17 مايو/أيار التاميلي، هو نفسه الذي يتواطأ مع إبادة غزة المستمرة.
وتحدث ناشط سبعيني عن نضال الفلسطينيين غير المنقطع على مدى قرن، وعن الغضب الذي يعتصر قلوب عامةٍ ومثقفين كثرٍ في ولاية تاميل نادو من جرائم احتلال يقرّ العالم بعدم شرعيته، لكنه يدعمه بكل وسيلة قاتلة.
لا يجمع بين ماركسيي سريلانكا وإسلاميي ماليزيا غير قضية واحدة، إنها مناهضة الاحتلال والظلم المتفاقم ضد فلسطين وشعبها، وتجمعهما مع عدو أيديولوجي آخر في ولاية تاميل نادو الهندية الذين يتحدثون كثيرًا عن شيء اسمه حق تقرير المصير أقرته الأمم المتحدة في ميثاقها.
مجاراة لمهنة التطفل أفضل المواصلات العامة على قيادة السيارة من المكتب إلى المنزل، فأسمع انطباعات شعبية متخفيًا وراء زبون، لا سيما بعد التطبيقات الحديثة لخدمات توصيل الركاب والطلبات
بلا تصنع
قد يقول قائل إن هذا حديث نخب مسيّسة، لكنه مشاعر حقيقية، كانت النخبة أكثر قدرة على التعبير عنها، وإن كان العامة أكثر صدقًا فيها، وهو ما تصدقه وقائع عايشتها.
وأنا أتابع معكم أخبار المذابح لن يأتيني مزاج للسياحة والتنزه، وإن كان لا بد من اصطحاب شقيقتي القادمة من فلسطين إلى مكان ما، فليكن إلى مسجد بُني على طراز صيني في مدينة ملقة، وعندما توقفنا لأخذ صورة أمام المسجد الجذاب بتصميمه ولونه الأحمر، تقدم الخمسيني أزمان سليمان لمساعدتنا.
وسرعان ما انتابته نوبة بكاء بمجرد علمه أننا من فلسطين، فهي المرة الأولى التي يقابل فيها فلسطينيًا، ولم يهدأ روع أزمان إلا باجتماع صحبته الذين كان يتبادل معهم الحديث أثناء انتظارهم برنامجًا يقام في المسجد.
كان عليّ الإنصات أمام تطور حديث الصحبة الملقاوية عن الواجب فعله تجاه فلسطين، وإذا ما كانت مسؤولية الحكام أم الشعوب، وأمام هذه العواطف الجياشة كان لا بد من الظهور بمظهر القوي، لعلي أوصل رسالة بأن فلسطين قوية بهم وبمساندتهم.
مجاراة لمهنة التطفل أفضل المواصلات العامة على قيادة السيارة من المكتب إلى المنزل، فأسمع انطباعات شعبية متخفيًا وراء زبون، لا سيما بعد التطبيقات الحديثة لخدمات توصيل الركاب والطلبات.
كان شعر سائق التاكسي ذات يوم يغطي كتفيه وكنت أتفحصه من المقعد الخلفي، مع حوار ممتع عن ساسة وغلاء لا يشعر به إلا من انتخبهم، وسألني بعد أن ناولته الأجرة: من أين؟ فأجبته من فلسطين، فارتبك ودخل نوبة بكاء وهو ينظر إلى الخلف يتفحصني، ويقسم علي بإعادة الأجرة، فلم أتمالك نفسي وأكملنا المشوار بين بكاء وجدال حول أخذ الأجرة التي يصر على إعادتها وأنا أقسم عليه أن أولاده أحق بها.
سألني سائق آخر بعد دقائق من استلامه الطلب من أين أكون، وكالمعتاد: من فلسطين، فتلعثم ولم يتكلم، وأخذنا نتبادل النظرات في المرآة وقد تغيرت ملامحه واقشعر بدنه، ووقفت شعيرات يديه منتصبة كأنه يتعرض لموجة برد قارص.
ثم بادرني قبل الوصول بالقول بلغة إنجليزية ركيكة، لن نبقى متفرجين سنأتي إلى فلسطين مثل الطوفان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.