شعار قسم مدونات

إسرائيل.. من داود المستضعف إلى جالوت المهيمن

مناورات تحاكي اجتياحا بريا للجيش الإسرائيلي بغزة وجنوب لبنان. المصدر: (من تصوير المتحدث العسكري باسم الجيش الإسرائيلي الذي عممها للاستعمال الحر للإعلام)
نتنياهو أدرك أن الحرب قد تكون فرصة للضغط على المجتمع الدولي ودفع الولايات المتحدة إلى التحرك الفعلي (الجيش الإسرائيلي)
  • سيناريوهات الصراع بعيون أكاديمية

في مقال سابق لي بعنوان: "مقتل هنية.. آخر أوراق نيرون" تحدثت عن هروب بنيامين نتنياهو إلى الأمام ومحاولته للرمي بكل أوراقه قبل مواجهة مصيره داخليًا. ها هي الأحداث تتوالى في ذات الاتجاه لتصل إلى شفير الانفجار في المنطقة؛ بسبب ذلك الهروب إلى الأمام. وهو الأمر الذي قد يتحول في لحظة تاريخية من مجرد ردة فعل غريزية للبقاء والتمسك بالسلطة، إلى خطوات عملية باتجاه ترسيخ أركان دولة الكيان الإسرائيلي في المنطقة، وتحويل نتنياهو من سياسي مكروه في الداخل والخارج إلى بطل قومي يُسَطر اسمه في الذاكرة الصهيونية إلى جانب كل من هرتزل، وبن غوريون، وغولدا مائير، ومناحيم بيغن.

يشير العديد من التحليلات إلى أن نتنياهو يعتمد على توسيع دائرة الصراع الإقليمي كوسيلة للبقاء في السلطة في ظل تدهور شعبيته داخليًا، ويراهن على جرّ الولايات المتحدة إلى حرب شاملة مع إيران قبل الانتخابات الرئاسية الأميركيَّة

التشبّث بالسلطة، وسيناريوهات الحرب

تواجه منطقة الشرق الأوسط اليوم تصعيدًا حادًّا بين إسرائيل وإيران، حيث يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى توسيع دائرة الحرب؛ لتشمل عدة جبهات إقليمية، من لبنان إلى اليمن، والعراق وصولًا إلى إيران نفسها.

من خلال هذا التصعيد، يسعى نتنياهو إلى قلب المعادلة السياسية الداخلية في إسرائيل، وتحويل السخط الشعبي على إدارته إلى تضامن قومي يهدف إلى ضمان الأمن لإسرائيل، وتحقيق سيطرتها على محيطها الإقليمي، ورسم صورة قوية ورادعة في المنطقة تمكن الشعب اليهودي من العيش في أمن واستقرار افتقدهما منذ تأسيس الدولة عام 1948.

هذا التحول الشعبوي في النظر إلى صورة نتنياهو من سياسي منبوذ إلى بطل قومي، يسهم فيه كذلك تحول الرؤية في الإنتلجنسيا الصهيونية بين الماضي والحاضر. فالمفكرون القوميون اليهود سئموا من السردية التي تظهر اليهودي في دور الضعيف المضطهد تاريخيًا، وأصبحوا يرون ضرورة رسم صورة القوي المستبد الذي لا يُقهر، عنوانًا للمرحلة القادمة من تاريخهم.

وهو ما يشيرون إليه بفكرة "التحول من داود إلى جالوت" في إشارة إلى التحول من شخصية داود في التوراة، الشاب المؤمن الضعيف المدعوم بالتوفيق الإلهي، إلى شخصية جالوت العملاق القوي المخيف القادر على البطش.

يقول المفكر اليهودي مايخا غودمان: "علينا كإسرائيليين أن نكون محبوبين في الغرب ومهابين في الشرق الأوسط. هذه هي المعادلة، لكن إذا اضطررنا أن نضحي بحب الرأي العالم الغربي في سبيل ترهيب الشرق الأوسط منا وجعل صورتنا تبدو كالقوة القاهرة القادرة، غير المتوقعة، التي لا تعترف بالخطوط الحمراء، فعلينا أن نفعل ذلك دون تردد."

في الحقيقة أن هذه التصريحات تعكس توجهًا أكاديميًّا وسياسيًّا كبيرًا في إسرائيل، يُظهر أنّها لن تتردد في اتخاذ خطوات عدوانية، حتى لو أثرت على صورتها في الغرب، إذا كان ذلك سيحقق لها تفوقًا إقليميًا.

نتنياهو يرى في الحرب مع إيران فرصة لإعادة ترتيب الأوراق في الداخل والخارج، حيث سيتحول التركيز الشعبي من الاحتجاجات إلى قضية أمن قومي تتعلق بوجود إسرائيل

  • الخبير في الشؤون الإسرائيلية – الفلسطينية ناثان ثرال

الرهان على توريط الولايات المتحدة

تشير العديد من التحليلات إلى أن نتنياهو يعتمد على توسيع دائرة الصراع الإقليمي كوسيلة للبقاء في السلطة في ظل تدهور شعبيته داخليًا، ويراهن على جرّ الولايات المتحدة إلى حرب شاملة مع إيران قبل الانتخابات الرئاسية الأميركيَّة، وهو ما قد يسهم في إعادة تشكيل التحالفات العالمية، وتغيير موازين القوى السياسية في المنطقة. هذا السلوك يُفسَّر كخطوة إستراتيجية تهدف إلى تحويل التركيز الشعبي من السخط الداخلي إلى دعم وطني لمواجهة "التهديد الإيراني".

نتنياهو أدرك أن الحرب قد تكون فرصة للضغط على المجتمع الدولي ودفع الولايات المتحدة إلى التحرك الفعلي. في هذا السياق، يقول المحلل السياسي والكاتب الإسرائيلي عاموس هرئيل: "نتنياهو ليس جديدًا على استخدام أزمات خارجية لإدارة أزماته الداخلية. إذا تمكن من إشعال صراع واسع مع إيران، فإن إسرائيل لن تكون وحدها، بل ستصبح هذه الحرب حربًا دولية بامتياز".

ويقول ناثان ثرال الخبير في الشؤون الإسرائيلية – الفلسطينية: "نتنياهو يرى في الحرب مع إيران فرصة لإعادة ترتيب الأوراق في الداخل والخارج، حيث سيتحول التركيز الشعبي من الاحتجاجات إلى قضية أمن قومي تتعلق بوجود إسرائيل".

كانت طهران تحاول شراء الوقت، إذ إنَّ أي تصعيد عسكري قد يؤدي إلى تدمير جهود سنوات من العمل الدبلوماسي مع الغرب

  • المتخصص في الملف النووي الإيراني علي واعظ

إيران.. الرد المتأخر والتخبط الدبلوماسي

منذ مقتل إسماعيل هنية في إيران، توعدت الأخيرة بالانتقام. إلا أنه وعلى الرغم من التهديدات العنيفة التي أطلقتها طهران في البداية، اتجهت لاحقًا إلى التهدئة وفتح قنوات حوار دبلوماسية مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي.

ويرى المراقبون أن هذه الخطوة تعكس محاولة من إيران لامتصاص التصعيد الإسرائيلي، خاصة أن تل أبيب لطالما اعتبرت البرنامج النووي الإيراني خطرًا وجوديًا، وأظهرت عدم نيتها في العدول عن الاستفزاز والشد نحو المواجهة المباشرة.

في هذا الإطار، جاء تصريح محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق، الذي قال: "إن إيران لا تريد الحرب، لكنها لن تتردد في الدفاع عن نفسها إذا دُفعت إليها". ومع ذلك، بدت هذه التصريحات لا تحمل أي قيمة، خصوصًا بعد تصريحات الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان الذي أبدى استعدادًا لمناقشة التخلّي عن التسلح النووي مقابل تنازلات إسرائيليَّة، رغم أنّ هذا العرض بدا بعيدًا عن الواقعية.

وجاء مقتل حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في لبنان، الحليف الأقوى لإيران في المنطقة، ليقلب الطاولة تمامًا. فبعد هذا الحدث، فقدت أي مبادرة دبلوماسيّة إيرانيَّة قيمتها، إذ باتَ الصراع على مشارف التصعيد العسكريّ.

ويرى خبراء أنّ الحرب على إيران أصبحت مسألة وقت ليس إلَّا؛ خصوصًا بعد خطاب نتنياهو الأخير الموجه مباشرة إلى الشعب الإيراني الذي سماه "الشعب الفارسي النبيل" الطامح للسلام مع إسرائيل، والذي يستحق حكومة أفضل من حكومة إيران الحالية!

يقول علي واعظ، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية والمتخصص في الملف النووي الإيراني: "كانت طهران تحاول شراء الوقت، إذ إنَّ أي تصعيد عسكري قد يؤدي إلى تدمير جهود سنوات من العمل الدبلوماسي مع الغرب". غير أن مقتل حسن نصر الله، الذي يعد الحليف الأهم لإيران في المنطقة، أدى إلى تزايد التوترات بشكل كبير وأصبح من الواضح أن إيران ستواجه تصعيدًا غير مسبوق. وأي مبادرة دبلوماسية أصبحت بلا معنى.

إسرائيل بحاجة إلى منطقة عازلة تمنع أي محاولات مستقبلية من حزب الله لإطلاق الصواريخ أو شن هجمات على أراضيها

  • المحلل العسكري إيال زيسر

لكن ما هي السيناريوهات المحتملة للحرب على إيران؟

  • المرحلة الأولى: اجتياح لبنان

أحد السيناريوهات الأكثر وضوحًا هو البدء باجتياح إسرائيلي بري للبنان؛ بهدف تحطيم القدرات العسكرية لحزب الله. وقد ينتج عن هذه الخطوة بالفعل تحييد قوة الحزب وإنشاء منطقة عازلة حول نهر الليطاني، لتكون مشابهة للخط الفاصل بين إسرائيل ومصر، المعروف بـ "ممر فيلادلفيا".

يقول المحلل العسكري إيال زيسر: "إسرائيل بحاجة إلى منطقة عازلة تمنع أي محاولات مستقبلية من حزب الله لإطلاق الصواريخ أو شن هجمات على أراضيها."

وتاريخيًا، حاولت إسرائيل إنشاء مناطق عازلة على الحدود اللبنانية، لكن هذه المرة، ومع الوضع الداخلي اللبناني المتأزم وانهيار قدرات حزب الله، قد تنجح في ذلك. وربما يكون دور المجتمع الدولي في هذه المرحلة فاعلًا، حيث من المتوقع أن تدعو إسرائيل إلى نشر قوات حفظ السلام الدولية في لبنان بعد انتهاء العمليات العسكرية إلى حين إعادة الاستقرار وانتخاب حكومة لبنانية جديدة قادرة على حكم البلاد بعد الانهيار الأمني والسياسي المتوقع.

  • المرحلة الثانية: الضربات الجوية في العراق واليمن

في ذات الوقت والسياق، لن تتوقف إسرائيل عند لبنان، بل ستستهدف مواقع الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، وقد تُنفذ ضربات جوية مكثفة تحديدًا على قوات الحوثيين الذراع العسكرية الأخرى لإيران في المنطقة.

فالحوثيون أثبتوا قدرتهم على إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة تصل إلى إسرائيل، ما يجعلهم هدفًا رئيسيًا في أي صراع إقليمي. التحليلات تشير إلى أن إسرائيل تسعى لتدمير قدرات الحوثيين العسكرية؛ لتعطيل أي محاولة لتهديد أمنها من الجنوب.

وقد أشار مايكل نايتس الباحث في شؤون الشرق الأوسط، إلى أن "اليمن هو الساحة التي ستشهد ضربات جوية متواصلة تهدف إلى تحييد تهديد الحوثيين بالكامل. وهذه الضربات لن تكون مجرد رد فعل تكتيكي، بل هي جزء من إستراتيجية شاملة لتقويض النفوذ الإيراني في المنطقة".

يبدو أن الحرب على إيران هي عنوان المرحلة القادمة، ويبدو أن سياسة نتنياهو ستعمل على تحويل الأدبيات الأكاديمية السياسية من مرحلة "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" إلى مرحلة "الصراع الإسرائيلي الإيراني"

  • المرحلة الثالثة: قصف المنشآت النووية والعسكرية

المرحلة الأكثر حساسية في هذا الصراع المحتمل ستكون استهداف إسرائيل للمنشآت النووية والعسكرية في إيران. هذا التصعيد سيهدف إلى شلّ قدرة إيران على الرد أو الدفاع، وسيكون خطوة أساسية قبل أي تدخل عسكري أميركي مباشر. في هذا السياق، يرى المحلل السياسي الكندي مارك دوبويتز: "إن ضرب المنشآت النووية الإيرانية سيكون بداية لحرب شاملة. هذه الخطوة ستدفع إيران إلى الرد بقوة، مما سيجرّ الولايات المتحدة وحلفاءها إلى الصراع".

وفي حال اندلاع صراع واسع النطاق، فإن السيناريو الأسوأ يتمثل في تدخل قوى عالمية أخرى مثل روسيا والصين، الداعمتين للنظام الإيراني. لكن بعض المحللين يرون أن روسيا، المنهكة والغارقة في وحل الحرب الأوكرانية، قد تتخلى عن دعمها لإيران، ما سيؤدي إلى إضعاف النظام الإيراني بشكل كبير، ثُمَّ انهياره في غضون عام واحد؛ وبالتالي تفكيك الدولة إلى دويلات صغيرة.

هذا السيناريو سيؤدي حتمًا إلى زعزعة الاستقرار لسنين طويلة في المنطقة بأكملها. ووفقًا لريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، فإن "تفكك إيران لن يكون بالضرورة بداية للسلام. بل قد يؤدي إلى نشوب صراعات داخلية وأزمات جديدة في المنطقة". لذلك، يرى العديد من الخبراء أن هذا السيناريو، رغم كونه محتملًا ومنتظرًا، إلا أنّه سيزيد من حدّة التوترات الإقليميَّة، ولا يضمن تحقيق الاستقرار.

في كل الأحوال، يبدو أن الحرب على إيران هي عنوان المرحلة القادمة، ويبدو أن سياسة نتنياهو ستعمل على تحويل الأدبيات الأكاديمية السياسية من مرحلة "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" إلى مرحلة "الصراع الإسرائيلي الإيراني". ويبقى السؤال الكبير حول مدى إمكانيَّة تحقيق نتنياهو هذا السيناريو المعقد، ومدى تأثيره على الإقليم. وسواء نجح أو فشل في ذلك، فالأكيد أنّه سيجرّ العالم إلى حرب شاملة جديدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان