من حقنا أن نتألم لمصاب الفلسطينيين واللبنانيين الذين تنكل بهم آلة القتل الصهيونية، وما من حُر قادر على أن ينفي التزامه الأخلاقي والإنساني تجاه الذين هُجّروا وعُذّبوا واعتُقلوا، ومن ينظر إلى واقعنا العربي المرير وتواطؤ العالم الحر، يبصر الخذلان الكبير الذي ابتليت به الأمة من رهط تشايعوا على وأد طموح شعوبهم في الحرية والعدالة والكرامة، حتى المؤسسات التي سيقت إلينا زمن الاستقلال الوطني، ما كانت لها الأساسات سوى رمال متحركة، وملاحم تناطح السماء كذبًا وزورًا، وهي ترقب كيف تعيث سهام الشمال فسادًا وخرابًا.
منذ بدء العدوان الصهيوني على القطاع، تصاعدت دعوات لإدخال المساعدات الإنسانية للغزيين عبر معبر رفح، لتجد المبادرات الشعبية والدولية أبواب المعابر موصدة في وجه آلاف الشاحنات التي ترابط على الحدود المصرية الفلسطينية
تراجيديا استثنائية
ضمن محطاته التاريخية الاستحقاقية ظل البيت العربي لا يبرح مكان الصمت، لا يتجاوز خطوطًا حمراء رسمت له. ومع أنّ الجامعة العربية لم تكن حقيقةً البيت الذي يأوي إليه حلم شعوبها، ولربما كانت العقبة الأولى دون استتباب وحدة الأمة، وقد تلاحقت هزائمها أمام الامتحانات التاريخية التي فرضتها المتغيرات والضرورات.
وغير بعيد عن عاصمة الجامعة العربية، يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات التهجير في فلسطين ولبنان، وهو لا يتوانى للحظة في استهداف المدنيين والطواقم الطبية والصحفية، معززًا سردياته المضللة بضوء أخضر من المؤسسات الصهيونية الداعمة له، لتزداد وتيرة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، والتهديد بالمذبحة الكبرى في الضفة الغربية، في وقت لم يشفع فيه ذلك للفلسطينيين واللبنانيين لدى الجامعة العربية باستدعاء أعضائها لاجتماع طارئ يناقش التحوّلات المخيفة "للوضع القائم" في المنطقة، والذي تعمل حكومة نتنياهو على ترسيخه وفرضه بالقوة.
منذ بدء العدوان الصهيوني على القطاع، تصاعدت دعوات لإدخال المساعدات الإنسانية للغزيين عبر معبر رفح، لتجد المبادرات الشعبية والدولية أبواب المعابر موصدة في وجه آلاف الشاحنات التي ترابط على الحدود المصرية الفلسطينية، بينما ظلت سلسلة الإمدادات العسكرية والاقتصادية مستمرة نحو الاحتلال، ولا يتم إلا إدخال الفتات من المساعدات الإنسانية لغزة، ليس بموجب المقرر الدولي وقرار مجلس الأمن، بل بالتوافقات الأمنية بين الصهيونية وحلفائها، وإلى هذه اللحظة لا يسمح بمرور قوافل الإغاثة الإنسانية للقطاع.
المحتل مهما كانت ادعاءاته الحضارية، غير آبه بالحق في الحياة لأصحاب الأرض، يعتبر مقاومتهم صورة للإرهاب والتخلف، وما الخوف من كسر أغلال التبعية والخضوع، إلا وجه قبيح للرفض المتوحش لآلة القتل الصهيونية، وهي تعيث عبر وكلائها فسادًا ودمارًا بشتى أنواع الإبادة
نستذكر كيف أنّ تسعة رهط ابتعثوا في قوم ليفسدوا ما جاء به نبي لهم، ويا ليت انبعاثهم ذاك كان فسادًا محصورًا في ذوات أفعالهم، بل منعًا لأي هامش إصلاح يمكنه أن يطرق باب التوبة، ليتجاوز القدر الممنوح لأيّ إنسان يقرّ بذنبه فيتراجع.. وما أحدثته عملية سهام الشمال الصهيونية ضد لبنان أدهى وأمرّ.
يألم أحرار العالم لتراجيديا الفلسطينيين واللبنانيين كما يألمون لهول الكوارث التي أحاطت بغيرهم، في سوريا والسودان وبورما وأفريقيا الوسطى والصحراء الغربية. والتضامن الإنساني نحو معاناة المهمشين والمغيبين لا يتجزأ، ورباط الأمر كله على استيعاب النفس البشرية للمآسي والمعاناة وتجاوزها، هو قدرة الإنسان على السعي خلف الحرية والكرامة الإنسانية.
فما معنى أن يعيش البشر مستعبدين في ذواتهم وهوياتهم، وأحلامهم مرهونة لرهط مؤسساتي لا يمكنه تقبل السلام العالمي إلا تحت صوت القنابل والتهجير، وما مأساة البشرية إلا في الرغبة المستميتة على الاستلاب والهيمنة بدل الاختلاف والتعايش.
والمحتل مهما كانت ادعاءاته الحضارية، غير آبه بالحق في الحياة لأصحاب الأرض، يعتبر مقاومتهم صورة للإرهاب والتخلف، وما الخوف من كسر أغلال التبعية والخضوع، إلا وجه قبيح للرفض المتوحش لآلة القتل الصهيونية، وهي تعيث عبر وكلائها فسادًا ودمارًا بشتى أنواع الإبادة.. حتى حلفاء إسرائيل في الداخل الفلسطيني من الضفة الغربية لم يسلموا من القصف والقتل، ليتأكد للعالم أجمع أنّ استحالة "استمرارية الاحتلال" لم تكن ضرورة تاريخية، بقدر ما هي فعل حضاري وأخلاقي وإنساني للإطاحة بالصهيونية ورهطها.
المفاوضات هي لعبة الاحتلال الدائمة للظفر بما لا يمكن الحصول عليه بالقوّة، وجنوح المقاومة للسلام وإن كانت ذات قدرة، ما هو إلا جولة في تاريخ الصراع الصهيوني ضد الأمة، ولتقوية شوكة المفاوضين في فلسطين المرابطة، كان على أحرار العالم أن يدعموا المقاومة بشتى أنواع الدعم السياسي والثقافي والإنساني
لعبة المفاوضات
بعد طوفان الأقصى جرت عدة متغيرات على الصعيد الإقليمي والدولي، وما كان مسكوتًا عنه وتحت الطاولة، بات جليًا للذين يعكفون على نصرة القضايا الإنسانية، حتى إنّ أسطورة دولة الاستثناء لم يعد لها قبول في السردية الغربية، وتصريحات مندوب الاحتلال في مجلس الأمن واتهامه لجامعات ومراكز أممية بدعمها حماس، فشل ذريع لترسانة الصهيونية الإعلامية في شيطنة المقاومة وحصرها في صورة الإرهاب.
قامت إسرائيل على أنقاض الانتداب البريطاني والعجز العربي، وما زالت ترسم لها سياساتها الإقصائية في الأراضي المحتلة هوية غير قابلة للتعايش ولا التفاوض، ولكنْ ثمة أمر مهم في الفكرة الاستعمارية للصهيونية، وهي تضع لمساتها الأخيرة في تغيير الوضع القائم، والمتمثلة في "لعبة المفاوضات" التي بموجبها تنازلت السلطة الفلسطينية عن الحق في المقاومة، أضف إلى واقع الانبطاح التاريخي عبر إبرام صفقات التطبيع العربية الإسرائيلية.
وتحت وهم السلام النهائي سيقت مشاريع تهويد الضفة والقدس في وقت أبان التطبيع العربي عن نتائجه التي أظهرت حقيقة استفراد آلة القتل الصهيونية بالفلسطيني، والعمل على التنكيل به وتهجيره واختزاله في الضفة والقطاع.
لم يتخلّ العرب عن دورهم تجاه الشعب الفلسطيني المقاوم لأعتى الأدوات الاستعمارية الغربية فحسب، بل تجاوزوا حدود الارتباط التاريخي والجغرافي مع مقدساتهم في القدس، وبدل العمل على مجابهة الاحتلال ولو بالصمت تجاه المقاومة، دخلت جحافل عربية حظيرة التطبيع، عبر سرديات مضللة تجرم المقاومة، في مقابل تبرئة تاريخية لنتائج المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
فالمفاوضات هي لعبة الاحتلال الدائمة للظفر بما لا يمكن الحصول عليه بالقوّة، وجنوح المقاومة للسلام وإن كانت ذات قدرة، ما هو إلا جولة في تاريخ الصراع الصهيوني ضد الأمة، ولتقوية شوكة المفاوضين في فلسطين المرابطة، كان على أحرار العالم أن يدعموا المقاومة بشتى أنواع الدعم السياسي والثقافي والإنساني، فالحرية لن تؤخذ بحبر المفاوضات، بقدر ما تمنحها بندقية المقاوم الحقّ في التفاوض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.