مع تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي يشهد العالم تحوّلات اقتصاديّة كبرى تستدعي التوقف عندها، وذلك بفعل التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي (AI)، هذا الابتكار الذي يعدّ أحد أهم الابتكارات التي من شأنها التأثير على مختلف قطاعات الاقتصاد.
يشمل هذا التأثير اليد العاملة، والإنتاج والإنتاجيّة، وذلك بدءًا من تطوير الكفاءة التشغيلية، مرورًا بخلق وتغيير سوق العمل وطبيعة الوظائف، بيد أنّ هذا الذكاء الذي يفتقد للحس البشري يطرح مجموعة من التحديات التي تفرض نفسها على المجتمعات والاقتصادات، ما يستدعي توازنًا دقيقًا بين إيجابياته وسلبياته.
أدّى الذكاء الاصطناعي إلى ظهور وتطوير بعض المفاهيم الاقتصاديّة، مثل الاقتصاد الرقمي، وتحليل البيانات الضخمة وترجمتها لاستخدامها في توقع متغيرات السوق المحليّة والعالميّة، وذلك عبر الاقتصاد القياسي
الزيادة من الإنتاجيّة والحدّ من التكاليف
لعلّ من أبرز إيجابيات الذكاء الاصطناعي في علاقته بالاقتصاد قدرته الفائقة على زيادة الإنتاجيّة والتقليل من التكاليف، حيث يستطيع تعويض العقل البشري جزئيًّا أو كليًّا بطريقة تتسم بالسرعة والنجاعة، بما أنّه يتكفل بالعديد من المهام الروتينيّة التي كانت تستدعي تدخلًا بشريًّا، مثل: تحليل البيانات(data analysis) ، والقيام ببعض المعادلات والعمليات الحسابيّة المعقدة، والعديد من المهام الأخرى. فبفضل الذكاء الاصطناعي باتت الشركات الآن قادرة على توقع سلوكيات المستهلك بدقة أكبر، مقللة بذلك هامش الخطأ البشري في قدرته على التوقع والاستباقيّة.
التشجيع على الابتكار وخلق أسواق وقطاعات جديدة
عبر قدرته الفائقة على تحليل البيانات بسرعة وبدقة عالية، يمكن للذكاء الاصطناعي خلق فِكَر جديدة، وتوقعات ترتكز على أنماط سابقة، ربما لم يكن بالإمكان اكتشافها بعد. والجدير بالذكر أنّه لا يقتصر على قطاع واحد فقط، بل يمتد ليشمل الصناعات التحويليّة، والصحيّة، والماليّة، وحتى النقل والمواصلات.
بالإضافة إلى ذلك، أدّى الذكاء الاصطناعي إلى ظهور وتطوير بعض المفاهيم الاقتصاديّة، مثل الاقتصاد الرقمي، وتحليل البيانات الضخمة وترجمتها لاستخدامها في توقع متغيرات السوق المحليّة والعالميّة، وذلك عبر الاقتصاد القياسي، الذي يستخدم قواعد بيانات ضخمة ليتنبأ بالأوضاع الاقتصاديّة في المستقبلَين: القريب والبعيد.
مستقبل الاقتصاد يعتمد إلى حد لا بأس به على قدرة المجتمعات على التكيف مع هذه التغيرات، من خلال الاستثمار والتدريب في مجال الذكاء الاصطناعي
تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل
مع هذه النقلة النوعيّة للذكاء الاصطناعي وتوسُّعه في مختلف المجالات، نشهد تغيّرًا لطبيعة سوق العمل بشكل ملحوظ. تشير التوقعات بأن يُحدث الذكاء الاصطناعي تغييرًا جذريًا في العديد من الوظائف التقليديّة، حيث يتوقع أن تحل المكْنَنة محلّ العمالة البشريّة في العديد من المجالات، وهو ما يطرح تحديات جمّة تتعلق بتأهيل اليد العاملة البشريّة، وإعادة تدريبها لتتناسب مع متطلبات السوق الجديد.
من جهة أخرى، يوفر الذكاء الاصطناعي وظائف جديدة تتطلب مهارات عالية في مجالات البرمجة، وتحليل البيانات، وهندسة الروبوتات والبرمجيات.
لذلك فإنّ مستقبل الاقتصاد يعتمد إلى حد لا بأس به على قدرة المجتمعات على التكيف مع هذه التغيرات، من خلال الاستثمار والتدريب في مجال الذكاء الاصطناعي.
التحديات الأخلاقيّة والاقتصادية للذكاء الاصطناعي
رغم الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي للاقتصاد، فإنّه يطرح جملة من التحديات، من أبرزها دور الذكاء الاصطناعي في توزيع الثروة، والمساواة بين مختلف العناصر المكونة للاقتصاد، فالشركات العالميّة الكبرى التي تمتلك موارد ضخمة يمكنها تبنّي وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعلها أكثر هيمنة على السوق، ويزيد بالتالي من فجوة التفاوت الاقتصادي بين الشركات الكبرى والشركات الصغيرة والمتوسطة خاصة، وبين الدول المتقدمة والدول النامية عامة.
كما تثير قضايا الأمن وانتهاك الخصوصيّة أيضًا مخاوف كبيرة؛ فاستخدام الذكاء الاصطناعي لبيانات ومعطيات شخصيّة قد يعرّضها للتهكير والقرصنة الإلكترونيّة إذا لم يتم بناء نظام أمن إلكتروني قوي، وسياسات تحكُّم لجعل الأمور دائمًا تحت سيطرة العقل البشري.
يمكن أن يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مختلف الصناعات والقطاعات، لكن الأمر في الوقت نفسه يتطلب تفكيرًا معمّقًا وجديًّا حول كيفيّة مواجهة التحديات المتعلقة بسوق العمل، وتوزيع الثروة، والاعتبارات الأخلاقيّة
كما تطرح مسألة الاعتماد المبالغ فيه على الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات عند البعض تحديات أخلاقيّة، تتعلق بتحديد من يتحمل المسؤوليّة عند الخطأ، أو فيما يُتّخذ من قرارات غير عادلة، مبنيّة فقط على منطق لغة قاعدة البيانات، ومغيّبة تمامًا للجانب الإنساني، الذي يقوم ببعض الاستثناءات في بعض الأحيان.
ختامًا
العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والاقتصاد هي علاقة معقدة وأحيانًا متضاربة، تجمع بين الفرص الهائلة والتحديات الجسيمة، حيث يمكن أن يُحدث ذلك ثورة في مختلف الصناعات والقطاعات، لكن الأمر في الوقت نفسه يتطلب تفكيرًا معمّقًا وجديًّا حول كيفيّة مواجهة التحديات المتعلقة بسوق العمل، وتوزيع الثروة، دون أن ننسى الاعتبارات الأخلاقيّة لتحقيق المنفعة الكاملة من هذه التقنية، دون المساس بالضوابط الأخلاقيّة والاجتماعيّة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.