براغماتيون ولكن..

ارتفع عدد القتلى الفلسطينيين إلى 53، بينهم 13 من عائلة الفرا؛ جراء استهداف الجيش الإسرائيلي عشرات المنازل في مناطق توغله بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، قبل أن ينسحب منها فجر الأربعاء. و "تم انتشال جثامين الشهداء عبر مركبات مدنية وطواقم الإسعاف والدفاع المدني، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي، ولا تزال عمليات انتشال الجثامين والبحث عن المفقودين تحت الأنقاض مستمرة". ( Abed Rahim Khatib - وكالة الأناضول )
لا يمكن أن تستمر الحكومات والشعوب في التذرع بالمصالح كذريعة للصمت أو التجاهل جراء ما يتعرض له أهل غزة (وكالة الأناضول)

ينظر الناس إلى السياسة وكأنها معادلةٌ مستغلقةٌ على الفهم، وأنّ الساسة أصحاب المناصب السياسية المرموقة هم وحدهم من يفهمون مغاليق هذه المعادلة بشفراتهم الخاصة. فتجد أن عبارة "أنت لا تفهم بالسياسة" هي أول ما يجري على ألسنة العامة إن احتدم بينهم النقاش، أو "لا تعنيني السياسة" إن أراد أحدهم التملص من النقاش أو تجنّبه من الأساس.

هذه الفجوة في الفهم تعكس حالة من الإقصاء والابتعاد عن القضايا السياسية، وهي حالة تتجلى بشكل صارخ في أزمات المنطقة العربية. لكن في الحقيقة، يكفي أن ننظر إلى واقعنا المخرّب، وسنعرف حينها مبلغ علمنا في السياسة، ثم إن السياسة علم يؤخذ وخبرة تكتسب مع الممارسات، وليست مزايا شخصية متوهمة، أو غوغاء تثار وخطابات طنانة تُلقى.

البراغماتية التي لا تتوازن مع المسؤولية الأخلاقية تفقد معناها، وتصبح عائقًا أمام اتخاذ مواقف فاعلة لمواجهة الظلم

في العقد الأخير، شَهِدنا تغيّرات هائلة في الشرق الأوسط، من الربيع العربي إلى الحروب الأهلية والعدوان الإسرائيلي المستمر، وكلها أمور غيّرت معادلات اللعبة السياسية. وبينما كانت السياسة سابقًا مجالًا يُشاح عنه النظر، أصبح من المستحيل اليوم تجاهل تداعياتها، خاصة بعد تفاقم العدوان في غزة، وتداعياته على منطقة الشرق الأوسط.

ثم إنّ تصاعد الأزمة في لبنان جعل الحديث عن هدنة شبه مستحيل، وصار التحييد أو الحياد في مثل هذا المنعطف غير مقبول أخلاقيًا ولا سياسيًا.. إن الوقوف على الحياد ليس خيارًا، فهو خذلان صريح في لحظة حرجة من تاريخ المنطقة.

البراغماتية كذريعة للصمت

السياسات البراغماتية القائمة على المصالح العملية، تحولت في كثير من الأحيان إلى مبرر للصمت، بل وأحيانًا إلى وسيلة لتبرير التقاعس؛ فالعديد من الحكومات العربية، بدلًا من اتخاذ مواقف حاسمة تجاه العدوان الإسرائيلي، تتبنى نهجًا براغماتيًا بحتًا، يركز على المحافظة على المصالح، وإن كانت تلك المصالح تأتي على حساب العدالة والكرامة الإنسانية.

إعلان

إن البراغماتية التي لا تتوازن مع المسؤولية الأخلاقية تفقد معناها، وتصبح عائقًا أمام اتخاذ مواقف فاعلة لمواجهة الظلم. وفي هذا الإطار، لا يمكن لحكوماتنا أن تبقى مشلولة بحجة الواقعية السياسية، بينما الشعوب تُقتل والعدالة تُداس.

إسرائيل تسعى بشكل واضح لاستئصال أي دعم للمقاومة، بينما نحن وأنظمتنا نبقى في موقع المتفرج، بل نحن مقيدون من طرف أنظمتنا عن المشاركة في أي حراك فاعلٍ

اتساع الحرب في ظل سياق تاريخي مريح

تبدو الأحداث الحالية في لبنان جزءًا من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تغيير المعادلات الإقليمية؛ فهي بحدها الأدنى تهدف إلى وقف هجمات حزب الله الداعمة لغزة؛ وعلى المستوى الإستراتيجي الأوسع، تهدف هذه المعركة إلى تحييد حزب الله بشكل كامل، وضرب فائض قوته التسليحية، وهدم تحصيناته، وإفراغ المنطقة من أي وجود عسكري له. ولابدّ أنّ المعركة ستُدار وفق معايير مشابهة للعدوان على قطاع غزة (استخدام أشد الأسلحة فتكًا، وعدم توفير أي حصانة للمدنيين أو المنشآت المدنية).

وللأسف، هذا العدوان يجري في سياق إقليمي وتاريخي مريح لإسرائيل، حيث تتكئ على مقت الشعوب لحزب الله، إذ تراه اليوم طرفًا في صراع معقد، يقف فيه الكيان الصهيوني كعدو أكثر ظلمًا ودموية ضد طرف دمويّ آخر.

إن إسرائيل تسعى بشكل واضح لاستئصال أي دعم للمقاومة، بينما نحن وأنظمتنا نبقى في موقع المتفرج، بل نحن مقيدون من طرف أنظمتنا عن المشاركة في أي حراك فاعلٍ. وهذه الأنظمة بدلًا من أن تتخذ مواقف حاسمة، تظل مشلولة بالتثبيط والتردد، تاركة الشعوب تواجه مصيرها بلا قيادة رشيدة.

لا يمكن أن تظل الشعوب مجرد متفرج على الأحداث، يجب أن تشارك في صياغة المستقبل من خلال القنوات السياسية المتاحة

كيف نواجه التخاذل؟

إن المطلوب اليوم ليس فقط المشاركة في النقاشات السياسية، بل أيضًا الانتقال إلى مواقف حقيقية يمكن أن تُحدث تغييرًا.. يجب أن تخرج الحكومات من قوقعة البراغماتية التي تركز فقط على المصالح الآنية، وتعيد النظر في المواقف التي تضر بمستقبل الشعوب.

هناك عدة خطوات يمكن اتخاذها لتجاوز التردد والتخاذل:

  • إعادة تقييم الأولويات: يجب أن تُدرك الحكومات أن الاستقرار الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلا بتحقيق العدالة.. لا يمكن أن يكون الصمت أو الوقوف على الحياد إستراتيجيات دائمة، هناك حاجة لاتخاذ مواقف تتبنى حقوق الشعوب، وتدافع عن العدالة في مواجهة العدوان.
  • تفعيل دور الشعوب: لا يمكن أن تظل الشعوب مجرد متفرج على الأحداث، يجب أن تشارك في صياغة المستقبل من خلال القنوات السياسية المتاحة.. دعم القضايا الإنسانية ليس خيارًا، بل واجبًا أخلاقيًّا على كل فرد، ولو بموقف صغير أو كلمة. إن رفع الوعي السياسي باتجاه العدالة والمقاومة هو في هذا الوقت الحرج ضرورة.
  • تعلم من دروس التاريخ: العدوان الإسرائيلي ليس جديدًا، وهو جزء من نمط أوسع من الاحتلال والهيمنة، والحرب على لبنان ليست سوى إعادة تدوير لمعركة عام 2006، التي كانت تهدف إلى تحييد حزب الله وتدمير قدراته.

مثل هذه الحملات تتكرر على مر التاريخ، والمطلوب هو استخلاص الدروس، والعمل على تجنب الوقوع في فخاخ سياسية مشابهة.. التاريخ يعلمنا أن التخاذل يؤدي إلى مزيد من الضياع، وأن المصالح القومية لا يمكن أن تنفصل عن العدالة الإنسانية.

الواقعية الحقيقية هي في إدراك أن البقاء على الحياد في مثل هذه المواقف هو شراكة غير معلنة في الظلم، وأن استمرار التهاون في اتخاذ مواقف جادة لن يخدم إلا أعداء الإنسانية والعدالة

البراغماتية التي لا تنظر إلى العدالة

صحيح أنّ النهج البراغماتي ضرورة سياسية، فهو قائم على تحقيق المصالح والنتائج العملية بغض النظر عن المواقف الأخلاقية أو المبادئ الثابتة، ولكن.. هناك حدّ لهذه البراغماتية عندما تتحول إلى تبرير دائم للتقاعس عن نصرة الحق، أو التخاذل أمام الظلم في مواجهة العدوان المستمر على غزة، ومع اتساعه إلى لبنان، فهذا يعني أننا كلنا دون استثناء أهداف قادمة، لذا لا يمكن أن تستمر الحكومات أو الشعوب في التذرع بالمصالح الواقعية كذريعة للصمت أو التجاهل.

إعلان

فالواقعية الحقيقية هي في إدراك أن البقاء على الحياد في مثل هذه المواقف هو شراكة غير معلنة في الظلم، وأن استمرار التهاون في اتخاذ مواقف جادة لن يخدم إلا أعداء الإنسانية والعدالة.

البراغماتية التي لا تقترن بالمسؤولية الأخلاقية لا يمكن أن تكون حلًا دائمًا، بل قد تؤدي إلى فقدان البوصلة القيمية، وغياب العدالة في صنع القرار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان