من تُتح له قراءة الجزء الثالث من مذكرات نبيل شعث المعنون بـ "عودة إلى الوطن" يرَ كيف يفاوض الصهاينة بغرض التفاوض فقط، يقدمون رِجْلًا ويؤخرون أُخرى، حتى تنتهي المسألة إلى لا شيء، ولكنهم يستطيعون تحميل الجانب الفلسطيني كل تبعات عدم التقدم في المفاوضات، على رأي القائل: (رمتني بدائها وانسلّت)، ويصدقهم العالم، ويطالب الفلسطينيين بتقديم التنازلات! فمن تكتيكاتهم استحداث قضايا لإشغال المفاوضات بها، وضمان إضاعة الوقت بعيدًا عن الموضوع الرئيسي للتفاوض.
المخالفات الإسرائيلية تعددت، فإنّ استمرار تحكم الصهاينة بالمعابر والحواجز جعلهم يمارسون الإهانة والضرب، وسحب الهويات الشخصية والاعتقالات، وكان هذا أحد الموضوعات التي كانت تتناولها اللقاءات التي يعقدها نبيل مع المسؤولين الصهاينة. وهذا يزيد الضجيج الناشئ عن المفاوضات دون أن يكون هناك تقدم نحو الغاية المرجوّة.
تم الاتفاق على إعادة المبعدين سياسيًا ومنع الإبعاد، كما عاد كثير من جنود منظمة التحرير وعائلاتهم، وبلغ عدد هؤلاء مع نهاية الفترة الانتقالية 600 ألف، وأقر المفاوض الإسرائيلي بحق من نزح بعد عام 1967 في العودة خلال المرحلة الانتقالية
يعلق نبيل بأنه كان غارقًا في المشكلات، لكن لم تغب عن باله الأولويات الإستراتيجية، فاتفاق أوسلو "كان فقط إعلانًا للمبادئ، نحن -الفلسطينيين- ننفذ اتفاقًا مرحليًا، ينتهي إلى الحل الدائم"، ويذكر أنه اكتشف عيوبًا وقيودًا كثيرةً عندما بدأت اتفاقات غزة – أريحا، يقول: إن الفلسطينيين نجحوا في الوصول إلى رئيسٍ منتخب، ومجلس تشريعي، ومجلس وزراء، بينما لم يُذكر ذلك كله في اتفاق أوسلو، الذي كان مقتصرًا على ما سُمي بالمجلس.
لم يحوِ الاتفاق أي إشارة إلى دولة مستقلة، فحاولوا إنشاء رموز الدولة المستقلة ومؤسساتها، ويعني هذا إنشاء اقتصاد مستقل، وميناء، ومطار إقليمي، وجواز سفر، وطوابع بريدية، وكود هواتف. حصلوا على الصلاحيات المدنية كاملة، الاقتصادية والسياسية، ولكن المشكلة كانت في الصلاحيات الأمنية والمستوطنات والقدس واللاجئين والحدود، كلها تركها اتفاق أوسلو لمفاوضات الحل النهائي.
وتم الاتفاق على إعادة المبعدين سياسيًا ومنع الإبعاد، كما عاد كثير من جنود منظمة التحرير وعائلاتهم، وبلغ عدد هؤلاء مع نهاية الفترة الانتقالية 600 ألف، وأقر المفاوض الإسرائيلي بحق من نزح بعد عام 1967 في العودة خلال المرحلة الانتقالية، ولكن تنفيذ هذا كان مرتبطًا بحدوث مفاوضات رباعية تشترك فيها الأردن ومصر وفلسطين وإسرائيل. ولا أعلم أن هذا قد تحقق حتى اليوم.
الاستيطان موضوع مهم، استمراره يعني ضياع ما تبقى من أرض قليلة للفلسطينيين، وليس في اتفاق أوسلو نص على وقف الاستيطان، هناك نص على عدم القيام على الأرض بخطوات تجحف بالحل النهائي، هناك نص على الوحدة الإقليمية بين الضفة وغزة، ظل الإسرائيليون يدّعون أنّ من حقهم بناء المستوطنات في الضفة وغزة والجولان في الفترة الانتقالية، فإذا تم الاتفاق في الحل النهائي على إزالتها تقوم إسرائيل بتفكيكها واستعادة مستوطنيها، كما حصل في سيناء. يقول شعث إنه عندما قرأ اتفاقية أوسلو على مكتب أبو مازن اعترض على عدم النص فيها على وقف الاستيطان "الذي يسري كالسّم في أرضنا".
عندما قامت حركة الجهاد بعملية بيت ليد التي قُتل فيها 19 صهيونيًا، لم تكتفِ إسرائيل بالأخذ بثأرهم، فاغتالت مجموعة من قادة الجهاد، أولهم قائد حركة الجهاد العسكري في غزة، وبعد أشهر استطاعت اغتيال الدكتور فتحي الشقاقي زعيم ومؤسس جماعة الجهاد
في نهاية عام 1995، قام مستوطنون بالاستيلاء على خمسمائة دونم من أراضي قرية الخضر بناحية بيت لحم، لتوسيع مستعمرة إفرات المجاورة، فاندلعت الاحتجاجات الفلسطينية، وهاجم أحد الحمساويين حافلة تقل موظفين من سلاح الجو الإسرائيلي. تلا ذلك قيام وزارة الإسكان الإسرائيلية بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية بنسبة 77% مما كان عليه قبل عام، وطُردت عائلات فلسطينية من منازلها؛ بحجة تخصيص المنطقة للاحتياجات الأمنية، وعندما تأخر السكان في إخلاء بيوتهم من أمتعتهم قامت القوات الإسرائيلية بإحراقها.
وفي بدايات عام 1995 قامت القوات الصهيونية بمهاجمة المركز الفلسطيني في معبر إيريز، وقتلت ثلاثة من أفراد قوة الأمن، وتذرعت بأن هؤلاء الثلاثة سهلوا مهمة تسلل عناصر من حماس لتنفيذ عمليات عسكرية في إسرائيل، وأثبت التحقيق كذب هذا الادعاء، وتداعى الطرفان إلى اجتماع ضم رابين وعرفات وفريقيهما.
تعهد رابين بإيقاف الدعم الحكومي للاستيطان، ومنع مصادرة أراضي الفلسطينيين بهدف ضمها للمستوطنات، وتعهد بعدم بناء مستوطنات جديدة، وبعدم التوسع في المستوطنات الحالية لأبعد من خمسين مترًا خارج الحدود الحالية، وبشرط إبلاغ الطرف الفلسطيني، وكان هذا -كما قال شعث- أفضل ما تم التوصل إليه بشأن الاستيطان، كذلك قال رابين إنه يُحضِّر للانسحاب من مدن الضفة الغربية، بإنشاء طرق التفافية حول أربع من هذه المدن تتيح للصهاينة التنقل دون احتكاك بالفلسطينيين، علمًا بأنه لم يكن مسموحًا للفلسطينيين -وحتى الآن- بإنشاء أي طريق.
لكن رابين رجع عن كل ذلك، فعندما قامت حركة الجهاد بعملية بيت ليد التي قُتل فيها 19 صهيونيًا، لم تكتفِ إسرائيل بالأخذ بثأرهم، فاغتالت مجموعة من قادة الجهاد، أولهم قائد حركة الجهاد العسكري في غزة، وبعد أشهر استطاعت اغتيال الدكتور فتحي الشقاقي زعيم ومؤسس جماعة الجهاد، ثم أعلن رابين شعار الانفصال التام بين الشعبين، ووضع مخططًا لإقامة جدار فاصل بين إسرائيل والضفة الغربية، معظمه أقيم على أراضٍ فلسطينية.
رغم كل ما فعله رابين ضد الفلسطينيين، فإنه قد اغتيل بتحريض من نتنياهو؛ لأنه -كما يقال- كان داعية سلام، وقد وصف نبيل في كتابه حزن القيادة الفلسطينية عليه، رغم أن رابين لم يتراجع عن قرار واحد من القرارات التي ذكرناها سابقًا
وسمحت السلطات الصهيونية بالتوسع في الاستيطان، وأعلنت إنشاء ثلاثة آلاف وخمسمائة وحدة سكنية للمستوطنين، وأُعلن عن السماح للمستوطنين بحمل السلاح، والخروج في دوريات مسلحة خارج حدود المستوطنات، وأعلن الرئيس كلينتون عن اعتبار اثنتي عشرة منظمة فلسطينية منظمات إرهابية، ضمت إلى جانب حماس والجهاد، مجموعة من المنظمات الفلسطينية التي تنتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية. يقول نبيل إنه طالب باعتبار الجيش الصهيوني منظمة إرهابية بالمثل؛ لأنه يقوم بقتل الفلسطينيين واغتيالهم.
في أحد اجتماعاته مع عرفات، هدد رابين بوأد عملية السلام؛ بسبب قيام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقتل حارس إسرائيلي، رد عرفات بأن قام باعتقال مائة من عناصر الجبهة، وأقام محكمة أمن الدولة التي ستحاكمهم، تابع رابين بأنه اتخذ إجراءات بتوظيف سبعين ألف عامل أجنبي ليحلوا محل العمال الفلسطينيين، وكان واضحًا أن العقوبة التي يلحقها رابين بالمجتمع الفلسطيني هي مفاقمة أزمة البطالة.
ورغم كل ما فعله رابين ضد الفلسطينيين، فإنه قد اغتيل بتحريض من نتنياهو؛ لأنه -كما يقال- كان داعية سلام، وقد وصف نبيل في كتابه حزن القيادة الفلسطينية عليه، رغم أن رابين لم يتراجع عن قرار واحد من القرارات التي ذكرناها سابقًا. ولكن ما جعله داعية سلام عندهم أقواله عن أنه وجد شريكًا فلسطينيًّا في عملية السلام، وأن السلام يتطلب قيام كيان فلسطيني مستقل. سوى ذاك لم يفعل شيئًا حقيقيًا للسلام.
وعندما جاء نتنياهو إلى الحكم أعلن عن توسيع مستوطنة أبو غنيم، وكان هذا يؤدي إلى إكمال الطوق الاستيطاني حول القدس، وعزلها جغرافيًا عن باقي أنحاء الضفة الغربية، وقد نجحت التحركات الشعبية للجماهير الفلسطينية في الضغط على نتنياهو من خلال كلينتون لتأخير تنفيذ هذه الإجراءات.. ولكن التنفيذ بدأ بعد حين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.