هنا في قطاع غزة، حيث تنقلب الأمور مرة واحدة بصاروخ إسرائيلي على هدف ما؛ فكيف يكون حال الصحفيين في كواليس عملهم؟
تعد بيئة العمل في غزة الأخطر على الصحفيين في العالم! حيث مشاهد الموت على مد البصر؛ يعيش الصحفي حياته متجولًا بعدسته بين جثامين الشهداء في الممرات، وفي الساحات العامة، ومشاهد الجرحى، والناجين تحت الركام، ومعها يسمع قصص الناس.
تخيل أنك تعمل من مستشفى، بحثًا عن الإنترنت والكهرباء لإرسال التقارير وبث الأخبار بشكل مستمر، وأنك تتنقل بين الجثث والمصابين والنازحين الذين يفترشون الأرض في كل نواحي المستشفى ومرافقه!
الأمر ليس سهلًا، كما والسؤال عن التفاصيل، واكتشاف الفقد في عيونهم في وسط تيه وتخبط ورعب، بلا يد مألوفة تربت على الأكتاف، وضوء ينير.. فهل الصحفي إنسان ملقح ومحصن ضد الصدمات النفسية؟ كيف يتصرف؟ كيف تغلب عليه إنسانيته.. بالمواساة، أم بمتابعة عمله وقلبه يعتصره الألم؟ كيف ينسى ويتظاهر أنه بخير؟!
يعيش الصحفيون في قطاع غزة في تغطية الحرب نظامًا خاصًا واستثنائيًا، حيث يعانون من الكثير من الضغوط النفسية؛ من ضمنها خطورة العمل في الميدان، واستهدافهم بشكل مباشر في كثير من الأحيان، وتكميم الأفواه من قبل المؤسسات الإعلامية الكبرى، وفرض سياسة لا تتوافق مع وجدان الصحفي في كثير من الأوقات، ومشاهدة القتل والتهديد والعنف الواقع على المواطنين بشكل مباشر.
علاوة على ذلك هناك الضغوط اليومية الناتجة عن الوقوف أمام الكاميرا، والبث المباشر، بالإضافة إلى حجم التحديات التي تواجههم وسط فقدان المعدات، واستهداف المقرات، وحالات النزوح المتتالية الداخلية، ومشكلة توفير الطعام والشراب، سواء على المستوى الشخصي، أو للعائلة التي اضطرت للنزوح أيضًا، فضلًا عن الحاجة لتفهم الظروف الطارئة لزملاء الفريق الذين فقدوا عددًا من أفراد عائلاتهم، أو أصيب بعضهم، علاوة على تدمير منازل الغالبية منهم، ما يعني غياب أدنى درجات السلامة والحماية للصحفيين.. تخيل أنك تعمل من مستشفى، بحثًا عن الإنترنت والكهرباء لإرسال التقارير وبث الأخبار بشكل مستمر، وأنك تتنقل بين الجثث والمصابين والنازحين الذين يفترشون الأرض في كل نواحي المستشفى ومرافقه!
منذ ما يزيد عن 353 يومًا، يخوض الصحفيون الفلسطينيون غمار العمل في ظل حرب قاسية، راح ضحيتها 175 صحفيًا وصحفية، وفق إحصائيات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي
تعد التغطية الصحفية في أوقات الحرب، والنزاعات المميتة، من أصعب التجارب التي قد يعيشها الصحفي؛ فيها تتساوى فرص النجاة مع فقدان الحياة، أو الخروج بإصابة في أحسن الأحوال؛ ولكن فهْم أهمية التغطية والحاجة لمواصلتها هما الوقود الذي يدفع الصحفيين للمواصلة. لا سيما وضرورة الموازنة بين الواجب الصحفي والمسؤولية الإنسانية.
إن من الآثار النفسية التي قد تلحق بالصحفيين، الصدمة المباشرة عندما يتعرضون للخطر بأنفسهم، والصدمة غير المباشرة عندما يشاهدون أو يسمعون قصص الخطر، أو التهديد الذي يحدث لآخرين سواء بشكل مباشر، أو عن طريق الشاشات والكاميرات، وتعرضهم لصور مؤذية، والاحتراق الوظيفي عندما تصيبهم حالة من الخدران الحسي، واللامبالاة، والتعب، أو الضغوط النفسية التي قد تفضي إلى القلق، والاكتئاب.
يعيش الصحفيون في قطاع غزة في حالة من القلق المستمر، وأكثر ما يفكرون به أسرتهم. إنهم يعيشون في خوف مضاعف، أحيانًا يطمئن قلب الإنسان بمن حوله، وفي غزة مثل شعبي مؤداه: "الموت مع الجماعة رحمة"، لكن عائلات الصحفيين من هذه النعمة محرومة!
منذ ما يزيد عن 353 يومًا، يخوض الصحفيون الفلسطينيون غمار العمل في ظل حرب قاسية، راح ضحيتها 175 صحفيًا وصحفية، وفق إحصائيات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي. وأعلم بكل حزن أن كثيرين منهم فاض بهم وبأهاليهم الكيل، وأن الانتقال إلى ظروف أفضل صار مجرد أمل، بعد أن أضحى سقف طموحاتنا وطموحاتهم تحت الأقدام، لا فوق الرؤوس.
يخيم الحزن قليلًا عندما أفكر في الوضع الذي آلت إليه البلاد؛ ولكننا وبالرغم من كل شيء نحاول البقاء في الحاضر؛ مرة نقاوم ونكافح لأجل كتابة فصل جديد لم يرَ النور من قبل
وعليه، نتمنى من كل قلوبنا من مؤسسات الاتحاد الدولي لحماية الصحفيين على أقل تقدير ضمان حد أدنى من الحقوق الإنسانية في المعيشة، الحد الأدنى من الحقوق الآدمية، ونظل نذكر بأن الصحفي صاحب قضية قبل أن يكون صحفيًا، وأن محور حياته سيظل منغمسًا في تقديم يد العون إلى الغير.
يخيم الحزن قليلًا عندما أفكر في الوضع الذي آلت إليه البلاد؛ ولكننا وبالرغم من كل شيء نحاول البقاء في الحاضر؛ مرة نقاوم ونكافح لأجل كتابة فصل جديد لم يرَ النور من قبل، من داخل بقعة جغرافية يسعى الاحتلال لطمسها؛ وأن يجعل منا عبرة.
فلنكن عبرة إذًا.. ولكن بإرادتنا، وفي أحيان أخرى نود لو أن كل شيء ينتهي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.