شعار قسم مدونات

كيف وظفت إسرائيل خطاب "الخوف" لتبرير جرائمها في غزة؟ (1)

A Palestinian woman looks on at the site of an Israeli strike on tents sheltering displaced people, amid the Israel-Hamas conflict, at Al-Aqsa Martyrs hospital in Deir Al-Balah in the central Gaza Strip, October 14, 2024. REUTERS/Ramadan Abed
عند كل مساءلة لقادة إسرائيل على جرائمهم في غزة يتهربون بالسؤال الشهير "ماذا عن حماس؟" (رويترز)

كتب الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في مذكراته "رأيت رام الله": من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة.. ابدأ حكايتك من "ثانيًا"! ويكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانيًا" حتى ينقلب العالم (البرغوثي، 2000).

لهذا السبب، نجد أنه عند كل مساءلة للقادة الإسرائيليين على جرائم الحرب التي يرتكبونها، يتهربون من السؤال بالعبارة الشهيرة "ماذا عن حماس؟"، كما لو أن حركة حماس تمثل كل المناطق الفلسطينية الأخرى التي تحتلها وتسيطر عليها إسرائيل. هذه العبارة ذاتها يتم استخدامها من طرف الساسة الأميركيين عندما يتم انتقاد دعمهم الأعمى لدولة الاحتلال بالأسلحة والمال، وحتى بالإعلام.

في كل عدوان إسرائيلي على غزة، تكون الخسائر المدنية بين الأطفال والنساء دائمًا مرتفعة. هذا الوضع جعل الفلسطينيين المحاصرين في غزة بدون بديل آخر للتخلص من هذا الحصار إلا من خلال المقاومة، سواء عن طريق رمي الحجارة أو المقاومة المسلحة

في سبيل توفير سياق عام للأحداث، أصبحت غزة مخيمًا للاجئين الفلسطينيين تحت السيادة المصرية بعد نكبة 1948. وفي حرب الأيام الستة – أو نكسة 1967 – تم احتلالها من طرف إسرائيل، إلى جانب مرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء وكذا الضفة الغربية. وبموجب اتفاقيات أوسلو (1993-1995) بدأت إسرائيل في عملية نقل السلطة الحكومية في القطاع إلى السلطة الفلسطينية.

لكن لم يتم تسليم القطاع بشكل فعلي إلا بعد الانتفاضة الثانية (2000-2005)، حيث سحبت إسرائيل جنودها ومستوطنيها. ومع ذلك، فإنها استمرت في السيطرة على حدود غزة وغطائها الجوي.

إعلان

أخذ مصير غزة منعطفًا مختلفًا بعد انتخابات السلطة التشريعية الفلسطينية لعام 2005. ففي هزيمة قاطعة لحركة فتح، تم انتخاب حركة المقاومة الإسلامية (المعروفة باسم حماس) ديمقراطيًا في غزة. بعد ذلك بوقت قصير، تم تصنيف الحركة كـ"منظمة إرهابية" من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل.

لذلك، نجد أنه كلما حاول المجتمع الدولي إدانة إسرائيل لقتلها المدنيين والأطفال العُزَّل في اشتباكاتها مع كتائب القسام، فإنها تدعي أولًا أنها تمارس حقها الثابت في الدفاع عن نفسها، وتلقي اللوم بعدها على المقاومة، التي – وفقًا للسردية الإسرائيلية – تستخدم الأطفال والنساء كـ "دروع بشرية."

ومع زخم الآلة الإعلامية الأميركية في تجميل مثل هذه الفظائع، تستخدم إسرائيل هذه السردية لتجريم وشيطنة المقاومة في غزة، وبالتالي سلبها أي تعاطف أو دعم شعبي لها دوليًا، أو حتى عربيًا بعد التطبيع. فمن سيجرؤ على التعاطف مع مجموعة من "الحيوانات البشرية"، كما أطلق عليهم يوآف غالانت، الذين يفضلون رؤية تلاشي إسرائيل وموت "اليهود الأبرياء" على أن يكون أطفالهم أحياء؟ على الرغم من أن هذه الدعاية الإسرائيلية تخلو تمامًا من الأساس، فإن العديد في المجتمعات الغربية تؤمن بها بصدق، وتدعم إسرائيل بسببها.

الحقيقة هي أنه منذ عام 2007 فرضت إسرائيل، بمباركة من الولايات المتحدة، حصارًا جويًّا وبريًّا وبحريًّا على قطاع غزة، وبالتالي فرضت عقوبة جماعية على القطاع، الذي يبلغ عدد سكانه 2.2 مليون، وليس فقط على أعضاء حركة المقاومة الإسلامية.

هذا يعني ببساطة أنه حتى لو حاولت مجموعات المقاومة في حماس إخلاء غزة من نسائهم وأطفالهم، فليس لديهم أي مكان آخر للذهاب إليه في ظل هذا الحصار الغاشم. لهذا نجد أن منظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، تطلق على غزة لقب "أكبر سجن مفتوح" على وجه الأرض.

إعلان

وبسبب هذا الحصار، نجد أنه في كل عدوان إسرائيلي على غزة، تكون الخسائر المدنية بين الأطفال والنساء دائمًا مرتفعة. هذا الوضع جعل الفلسطينيين المحاصرين في غزة بدون بديل آخر للتخلص من هذا الحصار إلا من خلال المقاومة، سواء عن طريق رمي الحجارة أو المقاومة المسلحة. هذا ما لا يفهمه العديد من الغربيين، إذ إنه بالنسبة للمواطن العادي في غزة، إما أن يقاوم للحفاظ على حياته، أو يموت تحت القصف الإسرائيلي.. الأمر بهذه البساطة.

على الرغم من عدم وجود أي دليل واقعي يؤكد قيام مقاومي حماس فعليًّا بقطع رؤوس 40 طفلًا إسرائيليًا، فإن هذه القصة تمت إعادتها مرارًا وتكرارًا من قبل أكثر وسائل الإعلام والمجلات البارزة في الساحة الغربية، ما جعل كثيرين يعتقدون بأنها حادثة وقعت بالفعل

ومع ذلك، بعد عملية حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، تم تجريم وشيطنة الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى من قبل القادة الإسرائيليين، ووسائل الإعلام الغربية عمومًا. ففي كل خرجة إعلامية لهم، يقوم المسؤولون الإسرائيليون باستحضار كل أشكال الخوف والرعب بجعبتهم، محاولين رفع الانتباه عن الحالة القاسية للفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال.

أيضًا قام كبار المسؤولين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بالموازاة مع حملات الدعاية الصهيونية، بالترويج لشتى خطابات الخوف والترهيب، وذلك من أجل تضليل الرأي العام، ومنعه من إصدار أي خطاب فيه مساءلة ومحاسبة لجرائم إسرائيل.

فعلى سبيل المثال، في خطابه الأول بعد العملية العسكرية، أعرب الرئيس جو بايدن عن اندهاشه، مؤكدًا أنه طوال مسيرته السياسية الطويلة، لم يتخيل أبدًا أنه سيرى صورًا "مؤكدة لإرهابيين يقومون بقطع رؤوس الأطفال".

وعلى الرغم من عدم وجود أي دليل واقعي يؤكد قيام مقاومي حماس فعليًّا بقطع رؤوس 40 طفلًا يهوديًّا، فإن هذه القصة تمت إعادتها مرارًا وتكرارًا من قبل أكثر وسائل الإعلام والمجلات البارزة في الساحة الغربية، ما جعل كثيرين يعتقدون بأنها حادثة وقعت بالفعل.

وقد أظهر آخر التحقيقات أن هذه القصة ليس لها أي أساس من الصحة على الإطلاق. حتى الآن، تم تأكيد مقتل طفلين فقط في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يكن أي منهما مقطوع الرأس ولا محروقًا داخل فرن، بل من الممكن أن تكون وفاتهما نتيجة مباشرة لنيران صديقة من الجانب الإسرائيلي.

إعلان

بالإضافة إلى قصة قتل الأربعين طفلًا، انتشرت قصة أخرى عن حدوث اغتصاب جماعي لنساء إسرائيليات من طرف مسلّحين فلسطينيين في اليوم ذاته. ورغم مدى الوحشية التي قد تبدو فيها الصورة، فإن فضيحة مراسلة صحيفة نيويورك تايمز الأخيرة كشفت أيضًا أن اتهامات الاغتصاب الجماعي هذه هي أيضًا لم تكن مستندة إلى أي دلائل.

بالنسبة لهم، يعتبر الخوف منتجًا متجددًا باستمرار، وناجعًا دائمًا في تحقيق هذه الغاية، حيث تنتظر تلك الشركات وقوع أشياء مروعة مثل هذه لتستفيد منها في التعويض عن تراجع أرقام المشاهدة والاشتراكات لديها، ومن المرجح أن تلجأ إلى المبالغة في حجم هذا الخطر

علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن تصور أن مثل هذه الادعاءات الشنيعة، في فترة حساسة من هذا النوع، تم تقريرها من طرف شخص غير مطلع، وليس لديه أي خبرة سابقة في المراسلة الصحفية الفعلية، أو الصحافة عمومًا، قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

ومع ذلك، تم تكليف أنا شوارتز، وهي مخرجة سينمائية عملت سابقًا لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي، بالمراسلة في أحد أكثر المواضيع الحساسة الممكنة في ذلك الوقت، ببساطة بسبب علاقتها بإسرائيل. أما توقيت هذه المراسلات، فلا يمكن أن يكون أكثر ملاءمة، حيث نجحت بشكل فعال في تحقيق أهدافها في تخويف وتحريك الخوف لدى كل من يسمع هذه القصص الرهيبة.

أما شركات الإعلام الغربية، فدعمها لهذا النوع من الخطاب ليس لأن أصحابها لديهم علاقات مباشرة أو غير مباشرة بإسرائيل فقط، ولكن أيضًا بسبب ارتفاع أرقام المشاهدة في مثل هذه الأحداث؛ فليس من غير المعتاد سماع قصة عن قطع رؤوس 40 طفلًا، أو اغتصاب جماعي لنساء يهوديات.

بالنسبة لهم، يعتبر الخوف منتجًا متجددًا باستمرار، وناجعًا دائمًا في تحقيق هذه الغاية، حيث تنتظر مثل هذه الشركات وقوع أشياء مروعة مثل هذه لتستفيد منها في التعويض عن تراجع أرقام المشاهدة والاشتراكات لديها، ومن المرجح أن تلجأ إلى المبالغة في حجم هذا الخطر.

ومع ذلك، تقديم أخبار مروعة مثل هذه دون التحقق من وقوعها الفعلي هو مسألة يُتوقف عندها في مراعاة أدنى معايير الممارسة المهنية، التي يمكن نسبها لمهنة الصحافة.

إعلان

لماذا كل هذا؟! إنه خطاب "الخوف"، الذي وظفته إسرائيل – ومعها داعموها – لتبرير جرائمها في غزة.. وللحديث في هذه المسألة تتمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان