كنت أسكن في شارع متفرع من شارع "يافا" في مدينة لاهاي، وكان علي أن أمشي حوالي نصف كيلومتر يوميًا لأصل إلى محطة الترام المقابلة لسفارة المملكة العربية السعودية.
كنت في طريقي إلى الحي "العربي" في مدينة لاهاي صباح يوم السبت، وكان عليّ أن أتبضع بعض الحاجيات قبل بدء شهر رمضان المبارك.
وصلت إلى المحطة لأجد كهلًا مع زوجته يحاولان وضع حقائب السفر داخل صندوق سيارة بصعوبة، فعرضت المساعدة وقمت بوضع الحقائب داخل الصندوق. شكرني الزوجان بحرارة، وسألني الرجل عن اسمي وعن البلد الذي أتيت منه، فأجبته مبتسمًا وتمنيت لهما رحلة سعيدة.
انتهت العطلة الأسبوعية، وجاء يوم الاثنين ليبدأ معه أسبوع جديد، وليحلّ علينا شهر رمضان المبارك.
تصاب الفتاتان بالرعب لتبدأ المتسببة بالحادثة بنوبة بكاء هستيرية، حاولت تهدئتها فكانت النتيجة عكسية.. فهمت من صديقتها أن الفاعلة أم عزباء تعول طفلين صغيرين
طلب مني الضابط المسؤول مرافقة العاملات إلى غرف القضاة، وأعطاني المفاتيح، وطلب مني الانتباه جيدًا؛ لأن غرف القضاة تتضمن أوراقًا هامة وسرية، كما تتضمن حاجياتهم الخاصة.
بدأت المهمة بسلاسة، غرفة تلو الأخرى إلى أن وصلت إلى الغرفة قبل الأخيرة؛ لتدخل عاملتان، واحدة تهتم بتنظيف الأرض، والأخرى بإزالة الغبار عن الكتب والتحف ومكتب القاضي، بينما أنا أكتفي بالمراقبة.
لسوء حظي وحظ العاملة المسؤولة عن تنظيف الغبار يسقط من يدها، من غير قصد، درع زجاجي كان على أحد الرفوف. تفتت الدرع وتناثر الزجاج على الأرض.
تصاب الفتاتان بالرعب لتبدأ المتسببة بالحادثة بنوبة بكاء هستيرية، حاولت تهدئتها فكانت النتيجة عكسية.. فهمت من صديقتها أن الفاعلة أمّ عزباء تعول طفلين صغيرين.
لا أعلم ماذا انتابني في تلك اللحظة، إلا أنني وجدت نفسي أقول لها توقفي عن البكاء، أنا سأتحمل المسؤولية، فأنا من كسر ذلك الدرع.. حاولت المسكينة ثنيني عن ذلك، فقلت لها بحزم: قضي الأمر، أنت لست موظفة في الأمم المتحدة، وستخسرين عملك حتمًا، بينما طردي من العمل معقد بقوة قوانين الأمم المتحدة.
ذهبت إلى الضابط المسؤول، وأخبرته بما حصل، وادعيت أنني كنت أتفحص الدرع ووقع مني على الأرض!. بدأ الضابط الهولندي باللطم كما لو أنه في مجلس عاشورائي.
طرقت الباب، ودخلت لتحصل المفاجأة، بل قل المعجزة. فالقاضي الذي ينتظرني ما هو إلا الكهل الذي ساعدته قبل يومين قرب محطة الترام
أبلغني الضابط أن القاضي لن يحضر اليوم، ولكن عليّ زيارته غدًا في تمام الساعة العاشرة صباحًا؛ لأخبره بما حصل ليبني على الشيء مقتضاه.
علمت من الضابط أنه مضطر أن يكتب تقريرًا في الحادثة، وأنه سيرسله بالبريد الإلكتروني لأصحاب الشأن، ومنهم القاضي صاحب الدرع.
بدأت أدرب نفسي وأنا في طريقي إلى مكتب القاضي على الخطبة العصماء التي سألقيها على مسامعه، وبدأت محاكاة داخل عقلي، أتخيل فيها غضبه، وأتخيل إجاباتي عن أسئلته المتخيلة.
طرقت الباب، ودخلت لتحصل المفاجأة، بل قل المعجزة. فالقاضي الذي ينتظرني ما هو إلا الكهل الذي ساعدته قبل يومين قرب محطة الترام.
"بلال، هذا أنت؟".. "نعم يا سيدي".. "أنت من تسبب بكسر الدرع؟ أنت تعمل هنا؟"، فأجبته: "نعم أنا أعمل هنا، مع الأسف يا سيدي، كان خطأ غير مقصود"، فسألني: "هل كنت تعلم عندما ساعدتني أني قاضٍ في المحكمة؟" فأجبته: "لا والله، لم أعلم إلا الآن".
تبسم القاضي، وتنهد وقال لي بلغة عربية سليمة: "قدر الله وما شاء فعل". فأجبته: "الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه".. في تلك اللحظة تنفست الصعداء، ولم أصدق ما يحصل معي.
هرعت إلى الفتاة لأبشرها بما حصل، فبكت من الفرحة، وقالت: أنا لا أملك أن أكافئك، ولكني مستعدة أن آتي إلى منزلك لأنظفه مجانًا، فأجبتها: فكرة ممتازة، تعالي هذا السبت، ولكن لن أقبل أن تنظفيه مجانًا
لا أعلم لماذا، ولكن ربما لأنه قاضٍ لم يصدق قصتي، فسألني سؤالًا "خبيثًا": ما الذي كان مكتوبًا على الدرع الذي كنت تتفحصه وكسرته بالخطأ؟" فلم أجد أي إجابة. فسألني بشخصية القاضي المحنك: "قل يا بلال بصدق، من كسر الدرع؟"!. عندها قلت له الحقيقة، واستحلفته بالله ألا يعاقبها، وشرحت له ظروفها.
نظر إليّ نظرة إعجاب، وشرح لي أن الدرع غالٍ على قلبه؛ فهو درع تكريم من نادي كريكيت شهير في باكستان. وأضاف: لن أسمح لك أن تغلبني مرتين، فأنا سامحتك وسامحتها. وقال لي: لا تقلق أنا سأتكفل بحل المسألة مع المسؤولين وأصحاب الشأن.
تشكرته بكثير من عبارات الامتنان وهممت بالمغادرة، ولكن قبل أن أغادر سألني القاضي: "هل أنت صائم؟" فأجبته بإيجاب. فسألني: "هل ذقت الأكل الباكستاني قبلًا؟" فأجبته بالنفي، ليعود ويسألني: هل تأكل الطعام الحار؟ فأجبته بشيء من الخجل: لا يا سيدي، عندها قال لي: "ممتاز إذا، زوجتي ستعود من باكستان الأسبوع القادم، وأنت مدعو للإفطار عندنا".
خرجت وأنا لا أصدق، وهرعت إلى الفتاة لأبشرها بما حصل، فبكت من الفرحة، وقالت: أنا لا أملك أن أكافئك، ولكني مستعدة أن آتي إلى منزلك لأنظفه مجانًا، فأجبتها: فكرة ممتازة، تعالي هذا السبت، ولكن لن أقبل أن تنظفيه مجانًا، الأهم ألا تكسري أي قطعة من الأثاث؛ لأن "فرنسواز" صاحبة المنزل امرأة مجنونة، ولن ترحمنا إذا كسرنا لها فنجانًا من القهوة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.