لا خلاف في أن العلاقة بين الدين والقانون هي علاقة تعاضد وتكاتف، وما جاءت تلكم الرابطة بين النظامين إلا مراعاة للشعور العام والثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وكذلك احترام العقائد والتعاليم الثابتة في النفوس البشرية.
وما يؤكد قولي هذا ما نصت عليه المادة (1) من الدستور القطري: "قطر دولة عربية مستقلة ذات سيادة، دينها الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي لتشريعاتها، ونظامها ديمقراطي، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية. وشعب قطر من الأمة العربية".. ونظائر هذه المادة مطردٌ في الدساتير العربية، والمتأمل بدقة يجد أن هذه المادة تعكس بشكل جلي التأثير الواضح لمبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها على القانون. وعلى الرغم من هذه الصلة القوية، والترابط الواضح بين القانون والدين، نجد أنه هناك فوارق جوهرية بين النظامين.
تتشابه القواعد الدينية مع القواعد القانونية في كونهما منظِّمتين لسلوك الأفراد في المجتمع، بالإضافة إلى أنهما قواعد عامة مجردة لا توضع لشخص بعينه، ولا لوقائع بذاتها؛ فتراها تخاطب الكافة على حد سواء، من خلال العمومية والتجريد بالنسبة إلى أشخاصها وإلى موضوعها
يقصد بالقواعد الدينية أو الدين مجموعة الأحكام والتعاليم والأوامر والنواهي، التي شرعها الله للناس بقصد العمل بها، ابتغاء مرضاته وبها يتحقق الصلاح، ودفعًا لغضبه الذي يكون معه الطلاح، وهذه الأحكام تحدد واجب الإنسان نحو خالقه (كواجبات العبادة من صلاة وصيام ونحوها)، ثم واجبه نحو نفسه (مثل الدعوة إلى النظافة وتهذيب اللسان ونحو ذلك)، ثم واجبه نحو الناس (كالوفاء بالعقود والعهود ونظائرها). وتنقسم أحكام الشريعة الإسلامية قسمين؛ الأول قواعد تتعلق بالعقائد والعبادات والأخلاق، مثل الصلاة والزكاة، والآخر قواعد تتعلق بالمعاملات، سواء كانت مالية كالبيوع، أم شخصية كالزواج، أم جنائية كالقتل.
أما القواعد القانونية – أو القانون – فيقصد بها مجموعة القواعد العامة المجردة التي تنظم الروابط الاجتماعية، والتي تقترن بجزاءٍ تُوقعُه الدولة ولو بالقوة عند الاقتضاء. وتكمن الغاية من هذه القواعد في تنظيم سلوك الفرد في المجتمع، ومجابهة شريعة الغاب بعد أن كانت تحكمها القوة السافرة، والتصرفات الانفرادية دون إلزامٍ وجبر. ولذلك جاءت هذه القواعد لتهتم بواجب الإنسان نحو غيره من البشر.
إذًا، تتشابه القواعد الدينية مع القواعد القانونية في كونهما منظِّمتين لسلوك الأفراد في المجتمع، بالإضافة إلى أنهما قواعد عامة مجردة لا توضع لشخص بعينه، ولا لوقائع بذاتها؛ فتراها تخاطب الكافة على حد سواء، من خلال العمومية والتجريد بالنسبة إلى أشخاصها وإلى موضوعها. فضلًا عن كونهما تشتركان في ترتيب الجزاء حال المخالفة.
بيد أنه عند التحقيق نجد الاختلاف بين النظامين – القواعد أو التشريعات الدينية والقواعد القانونية – يكمن في النطاق والغاية والجزاء والمصدر.
تهدف القواعد الدينية إلى تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع، أضف إلى ذلك تنظيم سلوك الفرد مع ربه، ومع نفسه. علاوة على أنها تضع التعاليم والمبادئ السامية التي ترقى بالإنسانية، فتسعى نحو المثالية في تطهير الروح، وتزكية النفس
من حيث النطاق
يتسع نطاق تطبيق القواعد الدينية عن القواعد القانونية؛ حيث يشمل الأول علاقة الفرد مع نفسه، وما ينوي من أفعال ولو لم تترجم هذه النية إلى عمل، وظلت مستقرةً في النفس، وبذلك تضع الشريعة النوايا والبواطن نصب أعينها، وتحاسب عليها كأصل عام، وحينئذ نقول: إن أحكام الشريعة الإسلامية تمتد في تطبيقها إلى البواعث الدافعة للتصرف والتعامل، فالأعمال بالنيات، كما جاء في الحديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنَّما لكلّ امرئٍ ما نوى».
والأمر على النقيض بالنسبة إلى القواعد القانونية؛ إذ إنها لا تهتم – كقاعدة عامة – بنوايا الفرد، وتجعل السلوك الخارجي نصب عينها، وفي حالات استثنائية – فقط – تحاسب على البواعث الدافعة للقيام بالتصرف، ومن ثم يمتد نطاق القانون في هذه الفروض إلى النوايا كالشروع في الجرائم الخطيرة.
من حيث الغاية أو الهدف
تهدف القواعد الدينية إلى تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع، أضف إلى ذلك تنظيم سلوك الفرد مع ربه، ومع نفسه. علاوة على أنها تضع التعاليم والمبادئ السامية التي ترقى بالإنسانية، فتسعى نحو المثالية في تطهير الروح، وتزكية النفس، وصحة الجسد، وإعمار الأرض، وتحقيق العدل الكامل والسلام الشامل، وتأمر بالمحبة، وتأخذ بالتعاطف، وتشرع التراحم، فالدين بالأساس ينشد المثالية.
بينما تهدف القواعد القانونية إلى النفعية، فلا تسعى لأكثر من الحفاظ على النظام العام، وتنظيم السلوك الإنساني عندما يتعامل مع الغير، بما يحقق التوازن النسبي للمصالح الفردية، ووضع حد أدنى من العدل بين الناس؛ فالقانون ينشد النفعية لا المثالية. وخلاصة الأمر أن دائرة الدين أوسع بكثير من دائرة القانون، فكما قلنا: الأول مثالي، والثاني نفعي.
القاعدة الدينية لها أثر أكبر في نفوس الأفراد؛ لما تتمتع به من ازدواجية في العقاب، فالفرد يطبقها لوجود جزاء دنيوي يقع من قبل السلطة العامة، وفي حال الفرار فإنه لن ينجو من الجزاء الأخروي
من حيث الجزاء
أهم ما يميز قواعد الدين عن قواعد القانون هو وقت وقوع الجزاء؛ فالجزاء في القواعد الدينية أخرويٌ مؤجل يوقعه الله – عز وجل – على المخالفين للأوامر والنواهي، وقد يقترن بجزاء دنيوي في بعض الفروض كقطع يد السارق، وجلد الزاني أو شارب الخمر.
فالقواعد المنظِّمة لأحكام الشريعة الإسلامية تحتوي جزاءات دنيوية وأخروية لمخالفيها، دنيويةٌ معجلة تُوقع من قبل السلطة العامة، وأخروية مؤجلة تتمثل في العقاب المنتظر في اليوم الآخر. أما الجزاء في القواعد القانونية فهو مقتصر على الجزاء الدنيوي الحالّ، ومن هنا يظهر لنا جليًّا جانب من تشابه الدين مع القانون؛ حيث يوقع الجزاء في كليهما من قبل السلطة العامة.
وبالتمعن نجد أن القاعدة الدينية لها أثر أكبر في نفوس الأفراد؛ لما تتمتع به من ازدواجية في العقاب، فالفرد يطبقها لوجود جزاء دنيوي يقع من قبل السلطة العامة، وفي حال الفرار فإنه لن ينجو من الجزاء الأخروي.
عملية دمج أحكام الشريعة الإسلامية في القانون من المهام الملقاة على عاتق فقهاء القانون المسلمين؛ إذ إنه واجبٌ عليهم أن يبينوا للعالم القانوني بأسره، سواء كان شرقيًّا أو غربيًا، لاتينيًّا أو أنجلو- سكسونيًّا، أن شريعتنا الغراء تحتوي على قواعد متطورة يمكن تطبيقها في القانون في أي زمان أو مكان
من حيث المصدر
مصدر القواعد الدينية إلهي، فهي تستمد من الوحي الرباني، في حين تأتي القواعد القانونية من قبل السلطة التشريعية في الدولة.
ولا يعني ذلك أنه ليس ثمة ترابط بين القاعدتين القانونية والدينية، فقد يتبنى المشرّع في بعض الأحيان القواعد الدينية، ثم يصوغها قانونًا في صورة مواد تشريعية، وحينئذ تصبح قواعد قانونية مستمدة من الدين، مثل الأحكام التي نص عليها المشرع في القانون المدني القطري، كحوالة الدين، والهبة، والأحكام الخاصة بتصرفات المريض أثناء الموت، والتقايل من العقد، ونَظِرة الميسرة فيما يعرف بالأجل القضائي، وأغلب أحكام الأهلية، والمبدأ الشهير المستمد من شريعتنا الإسلامية "لا تركة إلا بعد سداد الديون"، والوصية،… وغيرها من الأحكام. وما سبق يصور لنا طبيعة العلاقة الجدلية بين القاعدة الدينية والقاعدة القانونية.
وفي الختام، وجب عليَّ – من مكاني المتواضع بوصفي طالبًا في علم القانون – التنويه بأن عملية دمج أحكام الشريعة الإسلامية في القانون من المهام الملقاة على عاتق فقهاء القانون المسلمين؛ إذ إنه واجبٌ عليهم أن يبينوا للعالم القانوني بأسره، سواء كان شرقيًّا أو غربيًا، لاتينيًّا أو أنجلو- سكسونيًّا، أن شريعتنا الغراء تحتوي على قواعد متطورة يمكن تطبيقها في القانون في أي زمان أو مكان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.