شعار قسم مدونات

أرجوكِ أخبريني أنك على قيد الحياة

الكاتب: كانت "سومة" شخصًا ينبض بالحياة بالنسبة لنا لهذا السبب بالتحديد صُدمنا لغيابها المفاجئ لدرجة عدم التصديق (الجزيرة)

"ستستمرون بعيش حياتكم بأحداث جديدة ووجوه جديدة، وهي وجوه أطفالكم الذين ستضج بيوتكم بأصوات ضحكاتهم".. كانت هذه الكلمات الأخيرة التي أرسلتها شقيقتي برسالة نصية إلى إحدى بناتها.

قُتلت الطبيبة سومة بارود في 9 أكتوبر/ تشرين الأول، عندما قامت طائرات حربية إسرائيلية بقصف سيارة أجرة، كانت تقلها وآخرين من غزة، بالقرب من دوار بني سهيلة قرب خان يونس جنوبي قطاع غزة.

لا أزال غير قادر على معرفة ما إن كانت في طريقها إلى عملها في المستشفى، أم مغادرة لتعود إلى المنزل.. وهل يهم ذلك حقًا؟ كان مقتلها – أو اغتيالها بشكل أدق – حينما استهدفت إسرائيل وقتلت متعمدةً 986 عاملًا في المجال الطبي، من ضمنهم 165 طبيبًا. وصلني الخبر عن طريق منصة الفيسبوك، وقد كُتب في المنشور "تحديث: هذه قائمة بأسماء شهداء القصف الإسرائيلي الأخير على سيارتَي أجرة في منطقة خان يونس"، تبع ذلك عدة أسماء، وكان اسمها (سومة محمد محمد بارود) الخامس في القائمة، ورقم 42,010 في قائمة الشهداء المتزايدة في غزة.

كانت بالفعل رئيسية في حياتنا، وفي بقائنا في مخيم اللاجئين في غزة.. كانت البكر والابنة الوحيدة، وكان عليها أن تتحمل نصيبًا أكبر من العمل والتوقعات مقارنةً بنا جميعًا

رفضت تصديق الخبر على الرغم من المنشورات التي انتشرت بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، تدرج اسمها الخامس وأحيانًا السادس في قائمة شهداء قصف خان يونس. استمررت بالاتصال بها مرارًا وتكرارًا، آملًا أن أسمع طقطقة الخط يتبعها صمت قصير، ثم صوتها الحنون الأمومي يقول: "مرحبًا أبو سامي، كيف حالك أخي؟"، ولكنها لم تجب أبدًا!

إعلان

طلبت منها باستمرار ألا تزعج نفسها برسالة نصية أو صوتية مطولة؛ لضعف الاتصال بالإنترنت وواقع الكهرباء.. "فقط اكتبي كل صباح: نحن بخير".. هذا ما طلبته منها.

كانت تمر عدة أيام دون كتابة، غالبًا بسبب انقطاع الإنترنت، ثم تصل رسالة لم تكن مختصرة أبدًا، كانت تكتب بخواطر متدفقة، تجمع فيها صراعها اليومي من أجل البقاء، وخوفها على أطفالها، والشعر، وآية من القرآن، ورواياتها المفضلة، وما إلى ذلك.

كانت تقول في أكثر من مناسبة: أتعلم؟ ما قلته المرة السابقة يذكرني برواية غابرييل غارثيا ماركيز "مئة عام من العزلة".. ثم تحول الحديث لاتجاهات فلسفية معقدة. كنت أستمع وأكرر فقط: "نعم.. تمامًا.. أوافق.. مئة في المئة".

كانت سومة شخصًا ينبض بالحياة بالنسبة لنا، لهذا السبب بالتحديد صُدمنا لغيابها المفاجئ، لدرجة عدم التصديق. شعر أطفالها باليتم رغم أنهم قد كبروا، وإخوتي – ومن ضمنهم أنا – شعرنا بمثل ذلك. كتبت عن سومة كشخصية رئيسية في كتابي: "أبي كان مقاتلًا من أجل الحرية"، لأنها كانت بالفعل رئيسية في حياتنا، وفي بقائنا في مخيم اللاجئين في غزة.. كانت البكر والابنة الوحيدة، وكان عليها أن تتحمل نصيبًا أكبر من العمل والتوقعات مقارنةً بنا جميعًا.

كانت مجرد طفلة عندما توفي أخي الأكبر أنور في عيادة الأونروا في مخيم النصيرات؛ بسبب نقص الأدوية، وقد كان لا يزال رضيعًا.. عندها تم تقديمها إلى الألم، ذلك النوع من الألم الذي تحول مع الوقت إلى حالة دائمة من الحزن، لن تفارقها حتى اغتيالها بقنبلة إسرائيلية زودتها بها الولايات المتحدة في خان يونس.

أرسلها والداي إلى حلب لتحصل على شهادة طبية، ثم عادت إلى غزة، حيث أمضت أكثر من ثلاثة عقود تعالج آلام الآخرين، ولكنها لم تعالج آلامها الخاصة!

بعد سنتين من وفاة أنور الأول رزقنا بصبي آخر أسموه أنور أيضًا؛ كي يبقى أثر الصبي الأول.. قدرت سومة المولود الجديد، وحافظت على صداقة خاصة معه على مدى عقود.

بدأ والدي حياته طفلًا عاملًا، ثم مقاتلًا في جيش التحرير الفلسطيني، ثم ضابط شرطة خلال فترة الإدارة المصرية لقطاع غزة، ثم عاد ليصبح عاملًا مرة أخرى؛ لأنه رفض الانضمام إلى قوات الشرطة في غزة الممولة من إسرائيل، بعد حرب عام 1967 المعروفة بالنكسة. كان رجلًا ذكيًا وذا مبادئ، ومثقفًا تعلم بنفسه، بذل كل ما في وسعه ليمنح عائلته الصغيرة قدرًا من الكرامة، وكانت سومة – حتى وهي طفلة حافية القدمين – تقف إلى جانبه في كل خطوة.

إعلان

عندما قرر أن يصبح تاجرًا من خلال بيع الأشياء المهملة والغريبة في إسرائيل، وإعادة تغليفها لبيعها في مخيم اللاجئين، كانت سومة مساعدته الرئيسية. ورغم أنها شُفيت ظلت جروح أصابعها – نتيجة تغليفها لآلاف من شفرات الحلاقة – شهادة على الحياة الصعبة التي عاشتها!. "أصبع سومة يساوي أكثر من ألف رجل".. كان أبي يردد ذلك كثيرًا ليذكرنا – نحن الأبناء الخمسة – أن شقيقتنا ستكون الشخصية الرئيسية دائمًا في قصة العائلة، وبما أنها أصبحت شهيدة فقد ضمنت هذا للأبد.

بعد عدة سنوات أرسلها والداي إلى حلب لتحصل على شهادة طبية، ثم عادت إلى غزة، حيث أمضت أكثر من ثلاثة عقود تعالج آلام الآخرين، ولكنها لم تعالج آلامها الخاصة!. عملت في مستشفى الشفاء، ومستشفى ناصر، وغيرهما من المراكز الطبية، وحصلت لاحقًا على شهادة في طب الأسرة، وافتتحت عيادتها الخاصة.. لم تأخذ أجرًا من الفقراء، وفعلت ما في وسعها لمعالجة ضحايا الحرب.

صحيح أنه لم يُسمح لها بمغادرة القطاع لسنوات عديدة، ما حرمنا فرصة رؤيتها لسنوات، وصحيح أنها كانت تعاني من الوحدة والعزلة، ما جعلها تتعلق برواية غارثيا ماركيز الشهيرة، لكنْ على الأقل لم يُقتل زوجها أو يُفقد، وكان بيتها الجميل وعيادتها لا يزالان قائمين

كانت سومة جزءًا من جيل الطبيبات اللاتي غيرن الطب في غزة حقًا، حيث أبدين اهتمامًا كبيرًا بحقوق النساء في الرعاية الصحية، ووسّعن مفهوم طب الأسرة ليشمل الصدمات النفسية، مع التركيز بشكل خاص على أهمية النساء، وضعفهن في مجتمع مزقته الحروب. بعدما تمكنت ابنتي زريفة من زيارتها في غزة لفترة قصيرة قبل الحرب، قالت: "عندما تدخل عمتي سومة إلى المستشفى، تحيطها مجموعة من الطبيبات والممرضات والموظفات الطبيات بإجلال تام".

في فترة ما بدا أن كل معاناة سومة قد آتت ثمارها أخيرًا. منزل عائلي جميل في خان يونس، مع بستانِ زيتون صغير وبعض أشجار النخيل، وزوجٍ محب كان أُستاذًا في القانون، وأصبح لاحقًا عميد كلية الحقوق في جامعة مرموقة في غزة، وثلاثِ بنات وولدين تنوعت تخصصاتهم بين طب الأسنان والصيدلة والقانون والهندسة.

حتى تحت الحصار بدت الحياة يمكن مجاراتها، على الأقل بالنسبة لسومة وعائلتها.. صحيح أنه لم يُسمح لها بمغادرة القطاع لسنوات عديدة، ما حرمنا فرصة رؤيتها لسنوات، وصحيح أنها كانت تعاني من الوحدة والعزلة، ما جعلها تتعلق برواية غارثيا ماركيز الشهيرة، لكنْ على الأقل لم يُقتل زوجها أو يُفقد، وكان بيتها الجميل وعيادتها لا يزالان قائمين، وكانت تعيش وتتنفس، تتواصل بفِكَرها الفلسفية حول الحياة والموت والذكريات والأمل.

إعلان

كتبت لي في يناير/ كانون الثاني الماضي: "لو أتمكن فقط من العثور على بقايا حمدي حتى ندفنه بطريقة لائقة".. كان هذا عندما انتشرت أخبار إعدام زوجها بواسطة طائرة مسيرة إسرائيلية في خان يونس، ظلت متمسكة بأمل ضئيل بأنه على قيد الحياة بما أن الجثة كانت مفقودة.

من جهة أخرى، كان أولادها يحفرون في الأنقاض والحطام في المنطقة التي أُطلق عليه النار فيها، على أمل العثور عليه ومنحه كفنًا لائقًا، وغالبًا ما كانوا يتعرضون لهجمات من الطائرات المسيرة الإسرائيلية أثناء محاولتهم استخراج جثة والدهم. كانوا يهربون ثم يعودون مع مجارفهم لمواصلة هذه المهمة القاسية.

لم يكن هناك أي شيء يمكنني قوله أو فعله لإقناعها بالمغادرة؛ أصرت على أنها تريد أن تراقب الأنقاض مما تبقى من منزلها!. منطقها لم يكن مفهومًا بالنسبة لي. توسلت إليها أن تغادر، ولكنها تجاهلتني، وبدلًا من ذلك استمرت في إرسال صور لما أنقذته من الأنقاض

قررت عائلة سومة أن يتوزع أفرادها بين مخيمات النزوح ومنازل أقاربهم في جنوب غزة، لزيادة فرص بقائهم على قيد الحياة. هذا يعني أن سومة كانت في حالة تنقل وسفر مستمرين، وغالبًا ما تكون المسافات طويلة سيرًا على الأقدام، تتنقل بين المدن والقرى ومخيمات اللاجئين فقط، لتطمئن على أطفالها بعد كل اقتحام وكل مذبحة.

كانت تردد عليَّ: "أنا منهكة، كل ما أريده في الحياة هو انتهاء هذه الحرب، وأن أحصل على بيجامة مريحة جديدة، وكتابي المفضل، وسرير مريح". كانت هذه التوقعات البسيطة والمعقولة تبدو كسراب، خاصة عندما تم هدم منزلها في منطقة القرارة في خان يونس على يد الجيش الإسرائيلي الشهر الماضي.

كتبت: "قلبي يتألم، كل شيء ضاع، ثلاثون سنةً من الحياة.. من الذكريات.. من الإنجازات.. كلها تحولت إلى أنقاض". وأكملت: "هذه ليست قصة بشأن الحجارة والخرسانة، إنها أكبر من ذلك بكثير، لا يمكن سردها بالكامل مهما طالت كتابتي أو أحاديثي. هنا سبع أرواح عاشت، حيث أكلنا وشربنا، وضحكنا وتخاصمنا، ورغم كل التحديات التي واجهتنا في غزة، تمكنّا من تشكيل حياة سعيدة لعائلتنا".

بعد اكتشاف صورة لي في حطام منزلها المدمر في خان يونس (الجزيرة)
بعد اكتشاف صورة لي في حطام منزلها المدمر في خان يونس (الجزيرة)

قبل أيام قليلة من اغتيالها أخبرتني أنها كانت تنام في مبنى نصف مدمر، يعود لجيرانها في القرارة. أرسلت لي صورة التقطها ابنها وهي جالسة على كرسي متنقل، كانت تنام عليه أيضًا وسط الأنقاض، بدت متعبة.. متعبة جدًا. لم يكن هناك أي شيء يمكنني قوله أو فعله لإقناعها بالمغادرة؛ أصرت على أنها تريد أن تراقب الأنقاض مما تبقى من منزلها!. منطقها لم يكن مفهومًا بالنسبة لي. توسلت إليها أن تغادر، ولكنها تجاهلتني، وبدلًا من ذلك استمرت في إرسال صور لما أنقذته من الأنقاض.. صورة قديمة، وشجرة زيتون صغيرة، وشهادة ميلاد.

إعلان

كنت قد وعدتها في رسالتي الأخيرة لها، والتي كانت قبل ساعات من اغتيالها، أنني عند انتهاء الحرب سأفعل كل ما بوسعي لتعويضها عما مرت به، وأن عائلتنا جميعها ستجتمع في مصر أو تركيا، وسنغمرها بالهدايا وبحب عائلي غير محدود. أنهيت رسالتي بعبارة: "لنبدأ التخطيط الآن، أي شيء تريدينه؟ قولي لي، فقط في انتظار تعليماتك".. لكنها لم ترَ الرسالة أبدًا.

دُفنت شقيقتي سومة تحت كومة صغيرة من التراب في مكان ما في خان يونس.. لم أتلقَّ المزيد من الرسائل منها

رفضت التصديق، حتى عندما ذُكر اسمها في الأخبار الفلسطينية المحلية كإحدى ضحايا الإبادة الإسرائيلية في غزة؛ واصلت الاتصال بها وناشدتها "من فضلك، ردّي عليّ سومة، ردّي عليّ". وعندما ظهرت فيديوهات لأكياس الجثث البيضاء، تصل إلى مستشفى ناصر على ظهر سيارة إسعاف، عندها فقط بدأت أقتنع بأن شقيقتي قد رحلت بالفعل.

كانت بعض الأكياس تحمل أسماء الآخرين المذكورين في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، يتم سحب كل كيس على حدة ووضعه على الأرض. كانت مجموعة من المعزين: رجالٍ ونساء وأطفال، يُهرعون لاحتضان الجثة صارخين بصرخات الألم واليأس ذاتها التي رافقت هذه الإبادة المستمرة منذ اليوم الأول.

كيس آخر كُتب عليه اسم "سومة محمد محمد بارود" على البلاستيك الأبيض السميك، حمل زملاؤها جثتها برفق وضعوها على الأرض، عندما كانوا على وشك فتح الكيس للتحقق من هويتها أدرت وجهي في الاتجاه الآخر.. أرفض أن أراها إلا بالطريقة التي كانت تريد أن تُرى بها، كشخص قوي يجسد الحب واللطف والحكمة، وهي التي يساوي أصبعها أكثر من ألف رجل.

لكن، لماذا أواصل التحقق من رسائلي على أمل أن ترسل لي رسالة تخبرني أن كل هذا كان سوءَ فهمٍ كبيرًا وقاسيًا، وأنها بخير؟

دُفنت شقيقتي سومة تحت كومة صغيرة من التراب في مكان ما في خان يونس.. لم أتلقَّ المزيد من الرسائل منها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان